الآن فى زمن «السبوبة».. و«الرزق يحب الخفية» و«اللى تكسب به إلعب به».. أصبح غريبا على مجتمعنا أن نجد إنسانا مازال متمسكا بقيم ومبادئ يعتبرها الأغلبية العظمى «دقة قديمة»، ويعتبرهم العمليون منهم «قليلى الحيلة» أو مجموعة من الكسالى يبررون كسلهم بأنهم متمسكون بالمبادئ التى أكل عليها الدهر وشرب.. وهنا أتحدث عن المدرسين الذين يرفضون إعطاء دروس خصوصية إيمانا منهم بالعدل.. الرحمة.. والضمير المهنى!! نعم.. مازال هناك من يؤمن بهذه الأشياء.. ويقدسها ويعمل بها.. ولا يتشدق فقط بالشعارات الرنانة بلا عمل فعلى.
ربما التزامهم بها لم يجعل حياتهم أفضل.. بل العكس تماما.. لكنهم مؤمنون أنهم رغم قلتهم.. يساهمون فى خلق غد أفضل لوطن عانى ويعانى من فكرة «يلا نفسى».
يحلمون أن يصبحوا مثلا يقتدى به.. لكن الحقيقة أننى عندما قابلت الأستاذ أحمد حسن عبدالغنى مدرس الرياضيات باللغة الإنجليزية فى مدرسة خاصة.. الذى يشهد زملاؤه والطلبة فى المدرسة بكفاءته وبراعته فى توصيل المعلومة.. أصابتنى حالةشديدة من الإحباط.. فهذا الرجل البارع فى مهنته.. صاحب المبادئ والضمير المهنى الواعى.. الذى لا يبالى بسخرية بعض زملائه منه تارة وتشكيكهم فى مهنيته تارة أخرى.. هذا الرجل الذى من المفترض أن يكون شابا فى الثامنة والثلاثين من عمره.. عندما رأيته لم أصدق أنه الرجل الذى يحكون عنه!!
فأين الشباب؟! هذا الرجل عندما تراه.. تشعر أنه جاوز الخمسين عاما بسنوات.. وجهه شاحب.. جسده هزيل وكأن الأيام كانت تدهسه تحت إطاراتها بلا رحمة أو شفقة.. ملابسه عادية جدا.. عرفت منه أن مرتبه ألف ونصف.. يعيش مع والدته فى بيت العائلة.. ولأنه يرفض مبدأ الدرس الخصوصى فلم يستطع أن يدفع ثمن شقة إيجار ليتزوج بها، وبالطبع لا يملك ثمن شقة تمليك فى أى مكان فى أنحاء القاهرة.
الرجل هادئ.. مبتسم.. راضٍ أو هكذا يبدو.. يعمل بمهنة التدريس منذ أكثر من 20 عاما.. بدأ حياته فى مدارس الحكومة وبعد عشر سنوات.. استوعب أنه لن يستطيع بهذه الطريقة فتح بيت، فأخذ قراراً بعد ضغط من والدته ووالده أن يعمل فى المدارس الخاصة وبصعوبة استجاب لهما.. وأخذ إجازة بدون مرتب من عمله فى الحكومة.. لكن الحال لم يتغير كثيرا!!
عاش حياته مؤمنا بأنه يفعل الصواب كما فعل مدرس العربى الذى كان يدرس له فى المدرسة الإعدادية.. أستاذ «محمود عبدالتواب» رحمه الله.. الذى يعتبره قدوته حتى الآن.
لكن على حد قوله.. أستاذ «عبدالتواب» كان متزوجا.. ولديه أطفال.. أى أنه لم يكن لديه مشكلة بسبب التزامه بمصلحة التلاميذ.. لكنى أواجه ليس فقط تهديداً بأن أعيش ما تبقى من عمرى وحيداً دون ولد أو سند.. لكن أيضا أتعرض لسخرية شديدة من بعض الزملاء وبعض الفظاظة من الطلبة الذين أرفض إعطاءهم الدرس!!
حتى إن والد أحدهم اتصل بى ليضغط على وأعطى ابنه لأن المدرس فى فصل ابنه لا يشرح جيدا.. وعندما أصررت على الرفض.. قال لى فى نهاية المكالمة: «أقرع ونزهى»!! فسألته: ولماذا ترفض مساعدة طالب ولا تعتبره درساً بل مساعدة؟!، فقال: فكرت فى ذلك ولكنى خفت.. خفت أن يكون هذا مجرد مبرر لفتح باب أنا لا أحب أن أدخل فيه.. وهو أن يصبح العلم «لقمة عيش» وليس رسالة.. الفكرة أن المدرس لا يعلم أنه ليس فقط مسئولا عن توصيل المعلومة.. لكنه مسئول عن توصيل معنى لهذا الجيل.. معنى الحب بلا مقابل.. العطاء بلا مقابل.. الانتماء لوطنك بلا مقابل.. وإلا فسنجد فى المستقبل أطفالا وشبابا حبهم وعطاؤهم مشروط.. وانتماؤهم سيكون للمادة.. وأعتقد أننا رأينا هذا بعد الثورة بوضوح.. ليس فقط فى أولاد الشوارع.. وإنما فى شباب يبيع نفسه لجماعات.. أو أحزاب حسب حاجته ومصلحته وليس لهدف قومى حقيقى.
فسألته: ألا ينتابك أحيانا.. اليأس أو الإحباط أو حتى الندم؟!
صمت قليلا وضحك ضحكة قصيرة، ثم قال: أحيانا.. أحيانا أشعر بما تقولين مجمعا.. لدرجة أننى أطلب من الله أن يدخلنى فى رحمته ويأخذنى عنده.. فلا أنا قادر على مسايرة الواقع ومجاراة الحياة ولا أنا سعيد بحالى!!
متى شعرت بهذا الإحساس بقوة؟! عندما رفضت الفتاة التى أحببتها أن تتزوجنى لأننى سأعيش مع والدتى.. «ضحك ليدارى حزنه.. ثم صمت.
تركته وأنا أتساءل.. هل هذا جزاؤه؟! ذنب من هذا يا ترى؟!
الأستاذة «منى عبدالوهاب على» مدرسة الفيزياء بمدرسة حكومية فى مدينة نصر للصف الثانى والثالث الثانونى.. يختلف وضعها قليلا عن الأستاذ «أحمد».. فهى بسبب رفضها للدروس الخصوصية لا تواجه مشاكل مادية أو تأخر فى تحقيق أحلامها.. فهى فى النهاية امرأة.. تزوجت وأنجبت وساعدها هذا فى تحقيق هدفها السامى دون ضغوط.. لكن ما تعانيه الأستاذة منى هو انتقاد زملائها وزميلاتها فى المدرسة.. ومعاملتها كأنها مذنبة فى حقهم شخصيا.. يسألونها دائما بحدة: «ليه يعنى ما تديش دروس؟!» «عشان جوزك مستريح يعنى؟!»، «انت أصلك مدلعة ومش متحملة مسئولية!!»
تحاول أن تشرح لهم أنها تخاف الله وتريد إتقان عملها حتى لا يعاقبها الله.. فيردون عليها: «آه يبقى احنا بقى ما بنخفش ربنا!!»
فترد عليها أخرى: «هو ربنا يرضى أنى أكون مدرسة إحياء ولا فيزياء ثانوى عام وأقبض 003 ولا 004 جنيه؟!»
فترد عليها أستاذة منى: «والله يا جماعة عندكم حق لكن طالما قبلتم العمل ورضيتم بالمرتب، فهذا يعنى أنه يجب أن ترضى الله وضميرنا ونشرح بما يرضى الله.. ثم إن أهالى هؤلاء الأولاد لا ذنب لهم فيما تفعله الحكومة أو الوزارة بنا.. وإلا لماذا لم يدخلوهم مدارس خاصة إن كان معهم أموال لإعطائهم دروس خصوصية بملبغ وقدره فى الحصة؟! بالطبع هذا الكلام لا يقبله زملاؤها وزميلاتها.. ربما يشعرون بتأنيب ضمير.. وربما يرونها مغيبة من كوكب آخر.. لا تشعر بهم .