لم تكن هبة وحدها التى تغيرت حياتها تغييرًا كليا بعد الثورة. لم تكن وحدها التى نحت كل اهتماماتها جانبًا، وأصبحت تحيا فقط لتقديم أى مساعدة لمصابى الثورة. كان معها كثيرات، الدكتورة نيڤين وإيمان فوزى، والمهندسة لبنى وسحر وهؤلاء اللاتى تعرفت عليهن بالصدفة. وبالتأكيد مثلهن الكثيرات لم يسعدنى الحظ لمقابلتهن.. هؤلاء السيدات «قليل من الرجال شاركوا.. أغلبهم أطباء»، كن بالنسبة لى طاقة نور تمامًا كما كن بالنسبة للمصابين.
ففى الوقت الذى كنت بدأت أصاب باليأس من جدوى هذه الطريقة فى مساعدة المرضى، رأيتهن أمامى، كنت أتابعهن من بعيد وأندهش لهذا الكم من الإخلاص والتفانى. أتعجب من أين تأتيهن هذه الطاقة والقدرة على التحمل لمزيد من الأعباء لمساعدة المصابين وأهلهم وللبكاء على الشهداء ومواساة أسرهم. تعرفت على هبة السويدى شخصيًا بعد شهور من سماع اسمها يتردد على لسان مصابين ساعدتهم، كنت أتخيل صاحبة هذا الاسم كل يوم بشكل حسب وصف المصابين لها. أغلب من قابلتهم كانوا مصابى عيون، أجريت لهم جراحات تحملت هبة السويدى تكلفتها متطوعة متبرعة، ثم تابعت مع كل مصاب تساعده وتهتم به وتتعرف على أحواله. التقيت بها بعد ذلك مرة واحدة وتبادلنا العديد من المكالمات. وكان انطباعى عنها أنها ليست ممولة لتكاليف علاج المصابين. كما أنها ليست صاحبة قلب عطوف وفقط، إنها- وهذا هو الأهم- تتحمل المسئولية الكاملة، ولديها قدرة رهيبة على تحمل المسئولية بجدية وهدوء وسعة صدر، الانطباع الثانى أنها- مثلهن جميعا- لا تنتظر «مقابل» ولا حتى شكر أو مديح. فى ذلك اليوم عندما حدث خلاف وصل إلى درجة تبادل العنف بين بعض المصابين نزلاء القصر الفرنساوى وبعض الممرضات والموظفين فى المستشفى، هزنى جدًا تصورى لما عانته هبة السويدى، حاولت أن أتخيل مشاعرها وأفكارها، إذا كانت الحادثة سببت لى أنا البعيدة كل هذا الألم، فكيف سيكون حالها هى؟! فى ذلك اليوم كانت هبة السويدى تتلقى الضربات من كل الأطراف فى نفس اللحظة. المتجمهرون أمام باب المستشفى الذين جاءوا للدفاع عن المصابين عندما عرفوا أن الشرطة العسكرية والأمن اعتدى عليهم- كانوا يهاجمون هبة السويدى- والعاملون بالقصر الفرنساوى الذين تجمعوا للدفاع عن زملائهم كانوا يهاجمونها. كل طرف كان يتهمها بأنها تحرض الطرف الآخر، وكنت أتابعها على تويتر تكتب رسائل للمصابين وأهلهم وأصدقائهم تحاول تهدئتهم. فيتهمونها بأنها تدافع عن إدارة المستشفى، فى الوقت نفسه اتصلت بى إحدى الممرضات تليفونيا قالت لى «عاجبك اللى هبة السويدى بتعمله ده.. المصابين ضربوا زميلاتنا» حاولت أن أقرأ لها ما تكتبه هبة على تويتر فلم تسمع». ∎∎ هبة السويدى تحملت غضب الجميع من الجميع، وظلمها المظلومون. والمظلوم عندما يمارس الظلم يكون- للأسف- بنفس قسوة الظالم الأصلى. المدهش أن هبة لم تتراجع وكل من تعرض لما تعرضت له من سوء فهم أو تشويه أو تشكيك بدلاً من التكريم لم يتراجع مثلها. هؤلاء جميعا.. هبة السويدى ومن يشبهها.. من انتشلتهم الثورة من حياة عادية وألقت بهم فى حياة أخرى مسئولة. لن يتراجعوا مهما كانت تبعات المسئولية. لا يتراجع من وجد طريقه الذى ظل يبحث عنه طوال عمره. مهما كان الطريق قاسيا. لن يتراجع من ولد فى 82 يناير 1102 ولادة جديدة وهبة السويدى أولهم.∎