وظهرت زهور أشجار البوانسيانا الحمراء الفانية والبرتقالية المبهجة.. تدعونا للتأمل.. هذا الشهر يرتبط فى أذهان جيلى بذكريات وأحداث نتذكرها أحيانا بألم.. وأحيانا بمعرفة ودراسة سبب تلك الأحداث، تبعا لحالتنا المعنوية، أتحدث عن الخامس من يونيو 7691، لا أدرى لماذا تذكرت تلك المقولة الشنعاء.. «وتحطمت الطائرات عند الفجر».. تذكرتها بألم.. وحتى أزيل هذه الحالة المعنوية: المنخفضة أخرجت من مكتبتى.. كتاب كاتبنا الكبير وأستاذى.. «أحمد بهاء الدين». ∎ وتحطمت الأسطورة عند الظهر
فى مقدمة كتابه الرائع بعد حرب 3791 كتب عن ذلك الكتاب «وتحطمت الطائرات عند الفجر»: «لعل عشرات الآلاف من المواطنين العرب مثلى ظل هذا العنوان طوال سنوات يبعث القشعريرة فى أبدانهم وأعصابهم.. كان هذا عنوان لكتاب لقيط.. اسم مؤلفه مزور واسم مترجمه مجهول، كان واحدا من تلك الكتب التى دبجتها الدعاية الصهيونية ودستها على العرب بعد هزيمة 7691 وكأنها تلاحقهم بالهزيمة ليس على الأرض وحدها ولكن حتى داخل أعمق أعماق نفوسهم.. كان العنوان «تحطمت الطائرات عند الفجر» عنوان واحد من الكتب وربما أشهرها حتى صار رمزا على هذه الأكداس من المؤلفات المدسوسة خصوصاً أنه كان يستمد عنوانه من حقيقة مرة فقد تحطمت طائراتنا فعلا بعد الفجر بقليل»
وقد كتب الأستاذ بهاء بعد حرب أكتوبر 3791 كتابه المهم ليرد به على كتاب الهزيمة بتحطيم طائراتنا.. إن أسطورة إسرائيل قد تحطمت عند الظهر.
∎ الحرب النفسية
لقد تحدث كاتبنا الكبير عن هذه الحرب: «فلا يجوز من جهة أن نستسلم للحرب النفسية التى شنت علينا بمئات الكتب وآلاف المقالات محاولة أن تجعل للهزيمة أبعادا أكثر من حقيقتها أى أن تثبت أن أسباب الهزيمة أبدية وأزلية وكامنة فى طبيعة شعبنا وقدراته.. كما أنه من ناحية أخرى لا يجوز مطلقاً محاولة التقليل من العوامل التى قادت إلى الهزيمة والاعتذار عنها بأى شكل من الأشكال.. هناك منطقة وسط بين تعذيب النفس وبين دفن الرأس فى الرمال. هى المنطقة التى يجب أن نقف فيها ونستخرج منها الدروس الصحيحة التى يتعلمها شبابنا، فبهذه السلسلة المتصلة من الهزائم والانتصارات يتواصل تاريخ كل شعب فى العالم.. إنما المهم دائماً هو استخلاص النتائج الصحيحة».
وفى كتابه هذا يتحدث أولاً عن الفخ الذى نصب لمصر لاستدراجها لحرب 7691 بالتفاصيل كتب كيف وقعنا فى الفخ.. وكيف كانت تلك الحرب، وكيف استطعنا فى سنين قليلة بحساب الزمن أن نخرج من هذا الفخ.
∎ الأسطورة التى تحطمت
يشرح الأستاذ بهاء كاتبنا الكبير تلك الأسطورة «انقلاب الصورة من الاستهانة بإسرائيل قبل حرب 7691 إلى الأسطورة المبالغ فيها بعد تلك الحرب ظاهرة من أهم الظواهر التى تستوقف النظر وتحتاج إلى علاج كظاهرة نفسية وفكرية» ويشرح لنا هذا:
«حاولت إسرائيل أن تجعل من نفسها أسطورة معاصرة بهذا يحبها الناس أو يكرهونها ولكنهم فى كل الحالات يخافونها.. يظنون إنها دولة خارقة بين الدول ومجتمع سابق له بين المجتمعات فى أنها فى نهاية الأمر.. لا تقهر.. ولم يكن هذا الاختيار غريباً على شعب اختار لنفسه أن يقوم كيانه ويبنى عقيدته على أساس أسطورة أخرى قديمة وهى أنه «شعب الله المختار»
«كل جنرال إسرائيلى أسطورة عسكرية.. وكل جندى إسرائيلى بطل.. وكل مواطن إسرائيلى «جيمس بوند».. أى أنه السوبر مان الجديد فى كل مكان والعربى هو الساذج المتخلف العاجز عن اللحاق بالعصر أو.. عن فهم تعقيداته.. وظهرت الكتب والأفلام والروايات فى هذا المجال بالمئات ونجحت فى إقناع أوسع القطاعات فى الرأى العام العالمى بحقيقة الأسطورة التى لا تقهر وتسربت جرعات هذا السم إلى النفسية العربية وكانت هى المستهدفة».
ومن تحليلاته فى موضوع هذه الأسطورة.. كتب أستاذنا الكبير بهاء:
«إن إسرائيل كانت أكبر من خدع نفسه.. فهى كانت كما قال معظم المعلقين الأجانب بعد ذلك أى بعد حرب أكتوبر 3791 كانت ضحية الأسطورة التى خلقتها عن قوتها التى لا رادع لها على الإطلاق.. والأسطورة الثانية التى أوهمت بها العالم وأوهمت نفسها عن أن العرب لن يحاربوا قط.. لقد حفل كل الأدب الإسرائيلى السياسى والفنى والعسكرى منذ 7691 بأنواع التهويل من كفاءة الإسرائيلى وعجز العربى كجزء من الحرب النفسية ضدنا ونحو العالم كله، وكتصعيد لوضعها وإغراء حلفائها بمساعدتها ويهود العالم بالتبرع لها والهجرة إليها.. ولكنها صدقت هذا فى النهاية، ولعب هذا دوراً كبيراً فى بقائها حتى وقت متأخر أن العرب لا يمكن أن يشفوا الحرب فعلا»
∎ وهزمنا الهزيمة
هذه مقولة جميلة للأستاذ الكتاب الكبير أحمد بهاء الدين وفى كتابه:
«كان خط دفاع إسرائيل الذى أقامة أمام خط بارليف هو هذا الحاجز النفسى قبل الحاجز الترابى الذى صار يوهم العرب بأن مقارعتهم الإسرائيليين فى أى مجال مستحيل.. فى السياسة أو الاقتصاد ومن باب أولى وبالدرجة الأولى فى الحرب.. وكان خط أمنهم الأول أن ينمو شعور الهزيمة فى النفس العربية حتى يصبح حاجزا منيعاً بينهم وبين محاولة خدش الأسطورة».
«ولم يخطر على بالهم أن هذه الأسطورة سوف تتحول بالنسبة لهم إلى خمر تسكرهم وأنهم حين يصدقونها هم أنفسهم سوف يصبحون يوما ما من ضحاياها».
هكذا كتب فى كتابه المهم «وتحطمت الأسطورة عند الظهر» ويقصد ظهر يوم السادس من أكتوبر 3791. وعندما أعود لقراءة هذا الكتاب لكاتبنا وأستاذى أحمد بهاء الدين.. من الهزيمة إلى النصر.. أجدنى أخرج من كل الهزائم الخاصة والعامة إلى نصر واقعى.. أخرج من كل الذكريات الأليمة إلى ذكريات مبهجة مثل زهور أشجار البوانسيانا التى تبهجنا عندما تصدح بالغناء الطبيعى بألوانها المدهشة فى شهر يونيو.. متحدية كل أنواع القبح فى العمائر حولها.. أو الشوارع التى تظللها.
∎ و.. ذكرى صديقتى نهاد جاد
لقد رحلت فى يونيو أواخر الثمانينيات تأتينى مثل الطيف الجميل فى حلم عندما يأتى يونيو.. لا تخلف موعدها، كأنها تذكرنى.. وكأنى أنساها! وأنا أشاهد زهور أشجار البوانسيانا هذا العام تذكرت كلمات نهاد عن الأشجار: «تختلف دورة حياة الإنسان عن دورة الأشجار لأن الإنسان خلق ومن صفاته أن يغير شكل الحياة من حوله ولم يخلق لكى يكون جزءا مكملا للحياة مثل الأشجار.. قدر الإنسان أن يحلم وأن يغير شكل الكون وأيضا قدره أن يكون ضحية لهذا التغيير».
نهاد عزيزتى.. أحتاج لكلماتك هذه الأيام.. وعلى المستوى العام لا أدرى تماما ماذا نحتاج؟! و.. لأى شىء نحتاج؟.. هل نخشى من حرب أخرى فى يونيو؟!... إنها ليست حربا مع عدو متربص بنا فقط.. لكنها أيضا حرب بين أبناء الوطن! نخشى من تربص الزمن!
وأقول للزمن مع شاعرى الداغستانى المسلم «رسول حمزاتوف»:
«كف عن غرورك أيها الزمن.. عن ادعائك أن البشر ليسوا غير ظلالك.. وأن كل أمجادهم.. لا تعدو أن تكون انعكاسا لعظمتك.. فهؤلاء الرجال هم الذين يضفون بهاءهم على عصرهم.. يضيئون الزمن.. بأسمائهم الذائعة وأعمالهم الباقية... كن شكورا للشاعر، للمفكر، للبطل.. هذا الذى يخفض لنا جناح الرحمة.. يسكب علينا نور الروح والعقل.. إن التألق الذى يزين مفرق عصر ما.. ولا يخفت أبد الدهر.. ينبثق من منارات الجنس البشرى».