صدمني مروان، وأشعرني بعجز ممزوج بالدهشة، بعد أن صرخ في وجهي مساء السبت الماضي : "انت السبب.. ليه مروحتش اسكندرية تحمي الكنيسة؟، ليه سبتها تنضرب؟، دول أهلنا يا بابا"، مروان ليس قبطيا، لكنه طفل مسلم في السادسة من عمره، مازال يتلعثم في قراءة الفاتحة، ومع ذلك أثبت لي بالدليل العملي، أننا أمام أجيال مختلفة بشدة، أجيال عصر الميديا وزمن الاتصالات، بكل ما يصاحب ذلك من قدرة هائلة علي المتابعة والتفاعل مع الأحداث والتأثر بها، لذلك عندما تابع علي شاشة التليفزيون مشاهد الدم والبكاء، تأثر بها، ودفعه ذلك التأثر لأن يلومني بحرقة علي "تقصيري في حماية أهلنا"، حتي أنه يحملني مسئولية التفجيرات، وهنا مكمن الأهمية في عقلية طفل يري أن والده قادر علي منع الشرور عنه وحمايته وحماية أهله وأهل وطنه، كلمات مروان صدمتني للوهلة الأولي، لكن سرعان ما غادرتني الصدمة وتركت مكانها إحساسا بالخوف والألم، الخوف من غد محفوف بمخاطر العنف والتوتر الطائفي، والألم من تأثير ذلك علي مستقبل أجيال لاذنب لها بميراث الأشواك المتخلف من مراحل الأزمات والقصور في معالجة التوترات الاجتماعية المرتبطة بسياسات قصيرة النظر، والمؤسف أن شعوري بالخوف والألم ليس دليلا أبدا علي اتخاذي لموقف ايجابي تجاه هذه الأزمات، لذلك هاجمني تساؤل الفيلسوف الروماني إميل سيوران: ما الجدوي من آلامي؟، مادمت لست شاعرا أو موسيقيا حتي يمكنني أن استثمرها وافتخر بها؟ إن الألم وحده لايكفي، والخوف ليس مدخلا لحل الأزمات التي ينذرنا بها مستقبل عاصف، إن تفجير كنيسة القديسين ليس مجرد حادث عنف عابر، لكن ردود الأفعال تجاهه أثبتت أن مواجهة شبح العنف الطائفي يجب أن تتجاوز سرادقات العزاء والتهليل المفتعل للوحدة الوطنية، وعبارات الحكمة بأثر رجعي، أو لغة التنديد والنواح، والتراشق بالاتهامات، والتنابز بين الأطراف، كما يجب أن تتجاوز مفهوم المعالجة الأمنية السطحية التي تتصور الحل في إقامة المتاريس، وتكريس الحواجز، هكذا علمني مروان أن الحواجز بين المسلم والقبطي حواجز وهمية نحن الذين نكرسها، ونسعي إليها مع أنها ليست جزءًا من فطرتنا وطبيعتنا كشعب سمح، ننظر للآخرين باعتبارهم أهلنا كما ردد مروان بصدق. صحيح أننا أفسحنا المجال لماكينات التصريحات، وفتحنا مخازن الكلمات للتعبير عن الشعور بالمرارة والأسي، وإدانة تلك الجريمة البشعة التي سمحت للقتل والدم أن تلوث ثياب عيد الميلاد المجيد، لكن هذا العويل "المناسباتي" لايجب أن يعلو علي الأصوات المتعقلة التي تدعو للتكاتف من أجل إعلاء قيم المواطنة، وضرورة التقدم بثقة لتثبيت قواعد الدولة المدنية. وصحيح أن لدينا مثقفين بارعين في تحليل الموقف، والدعوة لمواجهة الفتن التي تهدف إلي زعزعة استقرار الوطن، لكن هذا الأداء يظل طقسا باهتا بلا روح، ويظهر فقط مع كل أزمة، والمنفر أنه يظل مجرد كلام مكرر، محفوظ، مشروخ، لأننا ندرك جيدا أن دائما هناك فتنة أخري، حادث آخر، كارثة أخري. فهل يمكن مثلا أن نعفي وزير الثقافة من المسئولية عن هذه الأزمة لمجرد أنه تكرم بتأجيل افتتاح معرضه السنوي، حدادا علي ضحايا تفجير كنيسة، وهل يمكن أن نعفي قطاعات وزارته من المسئولية لأنها سارعت بإصدار بيانات الإدانة، وكيف ننظر بعمق مثلا إلي الدور الذي يجب أن تلعبه قصور الثقافة لمنع هذه الفتن من المنبع؟، أليست هي الساحات الثقافية التي تتعامل مباشرة مع الجمهور الواسع؟، وهل قامت فعلا بالدور المنوط بها؟، وما الذي قدمته لمشروع الوحدة الوطنية بوصفه مشروعاً قوميا، هل يكفي إعادة إصدار كتاب أو توصية من مؤتمر أو ورشة مسرحية؟، وماذا عن المجلس الأعلي للثقافة، وهيئة الكتاب بالإضافة إلي الأزهر والمؤسسات الدينية والجمعيات الأهلية ووسائل الإعلام، وكل مؤسسة وكل فرد في مصر، لكن مروان يعرفني انا، ولايعرفكم، ولايعرف أنكم جميعا مقصرون، لذلك لامني وحاكمني بصرخاته ودموعه، واتهمني صراحة بالتقصير في حماية أهلنا، فهل لديكم أي رد مقنع ينقذني من عقاب مروان؟.. أرجو أن تفيدوني.