تعد مصر المحروسة من أولي الدول التي تعهدت بمكافحة الفساد بأشكاله المختلفة، ونعتبر من ضمن ثلاثين دولة اجتمعت في مكسيكو في ديسمبر 2003م لتوقيع اتفاقية محاربة الفساد، وهي اتفاقية تنص علي أن تقوم الدول الموقعة بتجريم ليس فقط الأشكال المعروفة للفساد كالرشوة واختلاس الأموال العامة، بل يشتمل أيضا علي أنواع أخري كاستغلال النفوذ أو السلطة والتواطؤ والتستر علي الفساد وغسيل الأموال وتعطيل العدالة، من المعروف أن مصر تتمتع بالآليات التي تساعدها علي القضاء علي الفساد، فلديها الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة، وبالإضافة إلي ذلك، فإنها تمتلك ترسانة من التشريعات والقوانين التي تتصدي للفساد. ورغم ذلك فإن مصر تعتبر من الدول التي تعاني من تنامي أذرع الفساد التي طالت كافة المؤسسات. اللافت للنظر أن المسئولين يدركون خطورة الموقف وعلي دراية تامة بتغلغل الفساد وانتشاره في أرجاء المعمورة حيث أشار أحد النواب البارزين في مجلس الشعب إلي أن الفساد «وصل للركب» في الإدارات المحلية. وأن هنالك دراسات وتقارير عديدة قد رصدت حجم الفساد المنتشر وتطرقت إلي الأسباب التي تساعد علي نموه حتي صار ماردا يصعب اجتثاثه والتخلص منه. من الملاحظ أن الفساد لا يقتصر علي الجوانب الاقتصادية والإدارية فحسب، بل يلقي بظلاله علي المناحي السياسية أيضا. الجدير بالذكر أن التقارير المحلية والدولية تشير إلي أن مصر باتت في زمرة الدول التي يجثم الفساد علي صدرها وأنفاسها، لعل تقارير منظمة الشفافية الدولية تقدم لنا ما يستحق التأمل، حيث تبين أن معدل الفساد بات مصدرا للإزعاج، لقد أوضح مؤشر الفساد في عام 2008م أن مصر حصلت علي 2.8 درجة، وهي درجة متدنية حيث تحتل رقم 115 من إجمالي 180 دولة. أما مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فقد قام بإعداد دراسة حول مناهضة الفساد حيث تمت مناقشة نتائجها في ندوة تحت عنوان "نحو مجتمع أكثر شفافية" في الفترة من 19-20 ديسمبر 2006م حضرها الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية. لقد تطرقت الدراسة إلي معلومة مهمة مفادها أن 28.5% من المصريين يعتقدون أن ارتفاع الأسعار هو انعكاس للفساد، وأن هذا الارتفاع يعمل علي توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء مما زاد من معدل المعاناة للمواطنين، وأشارت الدراسة أيضا إلي أن 88% اعتبروا انخفاض الأجور سببا رئيسيا لانتشار الفساد. وواصل المركز في منتصف 2009م في إصدار تقرير آخر يرتكز علي استطلاع آراء ثمانمائة من أصحاب الأعمال، حيث تبين أن المحليات تمثل أكثر المواقع فسادا، ويوضح التقرير أن 47% من أصحاب الأعمال المتوسطة والصغيرة يضطرون إلي دفع رشاوي لموظفي الحكومة بغية الحصول علي تراخيص ولتجنب دفع الغرامات، الخطورة في الأمر تكمن في أن مقدمي الرشوة ومتلقيها لا يعتبرون المبلغ المدفوع رشوة، لكنه إكرامية أو"شاي" في ثقافة التعامل مع بعض إدارات الحكم المحلي. لا نضيف جديدا إذا قلنا إننا لا نعاني من نقص في قوانين تتصدي للفساد، لأن القوانين كثيرة، وفي رأي منظمة الشفافية الدولية، فإن الآلية القانونية لمحاربة الفساد في مصر جيدة ولكنها لا تنفذ بشكل كاف. من الواضح أن هنالك فجوة عميقة بين القانون والواقع، ويعزي البعض عدم تطبيق قوانين محاربة الفساد إلي البيروقراطية الحكومية وإلي الصراع الكامن بين البيروقراطيين. وفي ظني.. فإنه لو تم تطبيق نصف أو ربع مواد القوانين التي في جعبتنا فسوف نحول الحياة إلي الأفضل. لعلنا لا نتفق مع تقرير منظمة الشفافية الذي يشير إلي أن الطبيعة التسلطية للدولة من شأنها أن تخرس أصوات المجتمع المدني، ومن ثم تجريد المواطنين من آليات محاسبة المسئولين الحكوميين، ففي الكثير من الأحيان نجد أن الرقابة الإدارية التي تعتبر من الجهات المنوط بها مراقبة الفساد لا تقف مغلولة اليدين أمام بعض مسئولي الحكومة، ومن الإنصاف أن نذكر القارئ أن أجهزة الدولة هي التي رصدت وكشفت معظم قضايا الفساد التي تناولتها وتتناولها المحاكم. وخلاصة القول إن الفساد الذي يزدهر وتقوي شوكته في ظل غياب الشفافية والرقابة يمكن مقارنته بالخفافيش التي تظهر وتتحرك وتخرج من جحورها وخنادقها في جنح الظلام لتصول وتجول وتعيث في الأرض فسادا، ولكنها سرعان ما تختفي مع إشراقة الشمس. ويحضرني هنا قول الإمام ابن القيم الجوزيه في كتابه "مفتاح دار السعادة: خفافيش أعشاها النهار بضوئه ولائمها قطع من الليل بادية فجالت وصالت فيه حتي إذا النهار بدا استخفت وأعطت تواليا وفي ظني.. فإن أفضل السبل لمكافحة الفساد هو تقوية الأضواء الكاشفة من خلال دعم حرية الصحافة ومن خلال دمج الهيئات والأجهزة الرقابية المختلفة التي أشرت إليها في الفقرة الأولي في إدارة واحدة تحت مسمي الهيئة العليا لمكافحة الفساد تماما، كما فعل الأمريكيون عقب تفجيرات 11 سبتمبر حيث تم استحداث وزارة الأمن الداخلي.