في كتابها " للجنة سور " الصادر عن دار شرقيات تحرص مي التلمساني علي الابتعاد عن الصور الشائعة النمطية عن المهاجر وحنينه للوطن وعذاباته في المهجر. وحتي لو حضرت هذه الصور في المقالات التي يضمها الكتاب فلكي تعيد مناقشتها وكشف الكيفية التي تختزل بها تلك الصور حياة المهاجر أو حياة الإنسان بشكل عام. الأفكار المسبقة سواء في مصر أو كندا هي ما تحاول تلك المقالات التخلص منها أو الصراع معها. لتعايش بدلا منها اللحظة الحالية. وأن تبدأ الكتابة من وسط علاقة ما مع أماكن أو أشخاص. دائما الكتابة من وسط مشهد ثم تتبع ما يتكشف من صلات مع مفردات ومعالم هذا المشهد: في المقهي، الطائرة، المطار، الطرق في كندا أو مصر، في بيتها هنا أو هناك. في مقال " الحركة " تترجم مي عن جيل دلوز " لم يعد مهمًّا البدء من نقطة والوصول إلي نقطة. فلقد أصبح السؤال هو: ما الذي يحدث ابينب يكثر في الكتاب الكتابة عن شخصيات تم الالتقاء بها مرة واحدة أو بشكل عابر. إيجور علي سبيل المثال، الذي لا يجيد أي لغة تتحدثها مي الجالسة جواره في الطائرة مصادفة. ويظلان يتنقلان بين ثلاث لغات أو أشباهها لعل وعسي أن يتواصلا أو يستقرا علي فهم أي شيء بينهما. كل العوامل التي تجعل كلا منهما علي حدة أو منعزلا عن الآخر متوفرة لكن يحدث بينهما تواصل من خلال تداعيات وإيحاءات الكلمات المتناثرة المتنافرة التي يقولانها. تواصل أشبه بوريقات تحركها دائما دوامات الهواء ولا تستقر في مكان واحد، لكنه قادر علي الحضور والتأثير دون وضع مسميات نهائية للأشياء. عدم الاستقرار هو العلامة المميزة لشخصية المهاجر في الكتاب دون أن يعني هذا أي دلالة سلبية ولا إحساس بالضياع ولا افتقاد مكان بعينه. بل هي حالة الشخصية التي توجد بين الأماكن وتبحث عن مخرج كلما كادت الدائرة أن تنغلق، وتشق طريقا جانبيا عندما تصير الطرق أمامها ممهدة ومكشوفة.هذه الحالة هي ما تقي الإنسان الوقوع في اجترار مشاعر الحنين وتساعده علي الحركة دون حساب المكاسب والخسارة. "أما في السيارة فعادة ما أكون مع نفسي ويخلو ذهني من الهموم. يمكنني لو شئت أن أقود السيارة أياماً وأسابيع وأنا أمني نفسي بالتوهان إلي ما لا نهاية. ورغم أني في كل مرة أعود إلي نقطة البدء، إلي بيتي وشارعي ومدينتي، إلا أني أغازل إمكانية الهرب كلما سافرت، ويبدو أن هذا الغزل في حد ذاته هو ما يعينني دائماً علي العودة " وعلي النقيض من حالة عدم الاستقرار نجد الشخصيات التي تخشي الحركة ولا تقدر علي ترك نفسها للرحلة وتتشبث بمكان واحد تحمله معها أينما حطت ولا تري أمامها سوي الماضي الغابر. كتبت مي عن رجل الأعمال المتردد في الهجرة إلي كندا رغم انبهاره بكل شيء فيها وتمني بأسي لو صارت كندا إسلامية في يوم من الأيام " صديقي سيهاجر حتماً إلي كندا، فقد ذهب تردده القديم أدراج الرياح. لكنني لست واثقة الآن من أنه سيتعامل مع البلد المضيف بما يتناسب مع كرم الضيافة، ولست واثقة من قدرة المضيف علي احتمال الضيف لو صمم وعاند واستبد برأيه." والوجه الآخر لرجل الأعمال الصديق الذي يثق أنها لن تتحمل قضاء إجازة لمدة شهرين في مصر فسوف تصطدم بكل ما يناقض الجنة في كندا. ورغم التفاؤل الذي تواجه به كل ما يحذرونها من العودة إلي مصر ويظهرون كيف تدهورت الأحوال فيها علي كل المستويات إلا أنها تعي علي مدار الكتاب أن "لا ثبات إذن، لا الخراب نهاية محتومة ولا التقدم الإنساني خط صاعد أبدي.. لا جحيم ولا جنة، خليط من الاثنين هي عيشة المهاجر".