الخديو عباس حلمي الثاني، الذي رحل في التاسع عشر من ديسمبر سنة 1944، بعد أن تجاوز السبعين بقليل من الشهور، صفحة مهمة في سجل التاريخ المصري الحديث، وحياة حافلة بالتحولات الغرائبية، في العام 1892 صعد إلي عرش مصر وهو في الثامنة عشرة من عمره وعزله الإنجليز في أعقاب قيام الحرب العالمية الأولي وفرض الحماية سنة 1914 وهو في الأربعين اشتعلت ثورة 1919 فتغيرت الخريطة السياسية جذريا ولم تعد فكرة عودته قائمة أو مطروحة وإذا به يبتعد ثلاثين عاما في المنفي أقرب إلي النسيان والذبول وهو الذي كان ملء الأسماع والأبصار وكانت الهتافات الشعبية تحلم بعودته عبر كلمات شهيرة تنم عن المراهنة علي وطنيته: الله حي.. عباس جاي! إذا كان الأب الخديو توفيق يقترن بالخيانة والتفريط والتآمر والتحالف البغيض مع الإنجليز لضرب الثورة العرابية فإن الابن الشاب بدا مختلفا ومبشرا بالحيوية التي تفتقدها مصر التي تعاني من مرارة الهزيمة والاحتلال حاول عباس حلمي أن يتبني سياسة مختلفة وتعاطف مع الحركة الوطنية الجديدة ممثلة في مصطفي كامل ورفاقه وأراد أن يتجاوز السلطة الشكلية للإمساك بمقاليد الحكم الذي يهيمن عليه الإنجليز بشكل فعلي لكنه لم ينجح في ظل ظروف معاكسة ضاغطة يغيب فيها التكافؤ ولا تفضي إلا إلي الفشل والاخفاق. ولد عباس حلمي ومصطفي كامل في عام واحد وتراوحت العلاقة بينهما بين التقارب والتباعد لا مجال لتقييم الخديو بمعزل عن إدراك طبيعة المرحلة التاريخية التي عاش فيها أما إهدار البعد الزمني وإخضاعه لقيم ومعايير تنتمي إلي عصور تالية فإنه يقود بالضرورة إلي ظلم فادح وأحكام ذات نبرة إنشائية لا ينبغي أن يكون لها جدوي في ساحة علم التاريخ. حظي الرجل بقدر لا يستهان به من الحب والتقدير عند العاديين من الناس ثم سطعت شمس سعد زغلول فتراجع القديم كله ولم يبق للحاكم الشاب المتقاعد من وجود يذكر اللهم إلا عند أقلية لا تأثير لها، فضلاً عن قدر من المخاوف يسكن في قلب الملك أحمد فؤاد ذلك أن الخديو المقيم في المنفي السويسري قد يكون بديلاً مطروحا عند الضرورة!