العقبات وقود الفضيلة، ناورها وأحب قدرك. هكذا يتأمل الفيلسوف والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس حكم الحياة والمسائل الأخلاقية والدينية، سجلها بالإغريقية قبيل وفاته بقليل في كتاب "التأملات". ويبدو أن ما شغل الفيلسوف طوال حياته التي امتدت من 121 إلي 180 ميلادي، لم يزل يشغلنا حتي اليوم، هي ذاتها المسائل الأخلاقية والذاتية التي منحت نصائحه الحصانة ضد عامل الزمن. صدرت "التأملات" عن دار رؤية للنشر مترجمة عن نسخة إنجليزية أعدها د. عادل مصطفي، وراجعها وقدم لها د. أحمد عتمان. ويقع الكتاب في قسمين، الأول عبارة عن 12 فصلاً هي إجمالي التأملات، والثاني دراسة وتعقيب للدكتور عادل مصطفي. في تأملاته يقدم ماركوس وصفة علاجية مميزة من أجل حياة إنسانية حقيقية يستطيع أن يسعد فيها الإنسان بآداميته ووجوده، يبدأ الوصفة بالتأكيد علي أهمية ما يمكن تسميته ب"قلعة الذات" أي الخلو إلي الذات بين وقت لآخر التماسا للأمان والسكينة، مع الإعمال بمبدأ محاكاة النهر في تغيره المستمر. ومن نصائح ماركوس الأخري الانصراف إلي اللحظة الراهنة والتصالح مع الموت، فهو يري أن الحياة المديدة ليست مكسبًا مادمنا لا نملك إلا اللحظة التي نعيشها، خاصة إذا كان المشهد الحياتي واحدًا منذ الأزل، فماذا يجدينا من تكرار رؤيته؟ ثم يخلص إلي ضرورة التأهب إلي الموت الذي هو أحد وظائف الطبيعة، أما الحياة فيترجمها ماركوس بالعيش مستعبدا لوعاء جسدي هو سيد بالغ الدناءة بقدر ما إن عبده بالغ الرفعة، هذا عقل وروح، وذاك تراب ودم. "تأملات ماركوس أوريليوس هي أعز قراءاتي جميعا إلي نفسي" هكذا وصف الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون كتاب التأملات. أما الشاعر الإنجليزي الكبير ماثيو أرنولد فقال عن صاحبها: "ربما يكون أجمل الشخصيات في التاريخ كله، إنه واحد من تلك العلامات التي تواسي وتبث الأمل وتقف إلي الأبد لتذكر جنسنا البشري الواهن والمنخذل بالأعالي التي بلغتها الفضيلة الإنسانية والدأب البشري يوما ما، ويمكن أن يبلغها مرة ثانية". أما جون ستيوارت مل فكتب يقول عن أوريليوس: "كانت كتاباته أرفع ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي". كان ماركوس رجلا فاضلا، كرس حياته كلها للأدب والفلسفة، لا سيما المدرسة الرواقية، والرواقية هي فلسفة عملية تعلمنا كيف نتحلي بالثبات ونتحمل المحن ونخرج من رماد الفشل، لكن ماركوس ينقلب علي الرواقيين أنفسهم بدحض زعمهم بإمكانية المعرفة اليقينية، ورفض كذلك أن توضع الآثام كلها في مرتبة واحدة، كما أنه اختلف عن قدامي الرواقيين في خلو كلامه من نبرة الثقة الزائدة والاعتداد بالرأي. قد توحي حياة ماركوس بكل الزخم الفكري والعملي فيها بأنها عاش كثيرا، إلا أنه وللمفارقة توفي في مارس عام 180م، عن تسع وخمسين عاما فقط، ويبدو أنه كان يشعر بدنو أجله، فختم تأملاته بقوله: "أيها الإنسان الفاني، لقد عشت كمواطن في هذه المدينة العظيمة، ماذا يهم إذا كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسين؟ علي الجميع تسري قوانين المدينة، فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يصرفك ليس قاضيا مستبدا أو فاسدا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك، استئناف الحياة إنما يحدده الكائن الذي ركبك أول مرة، والذي هو يفنيك، وما لك من دور في أي من العلتين، اذهب بسلام إذن: فالرب الذي يصرفك هو في سلام معك".