أحد أهم نقاط التميز في فيلم «certified copy» أو كما ترجم ببعض التصرف تحت عنوان «نُسخة طبق الأصل» - أن مؤلفه ومخرجه الإيراني «عباس كياروستامي» اختار «تيمة» تقليدية لينطلق بها إلي آفاق واسعة للغاية لا علاقة لها تقريبًا بتوقعات الجمهور. هناك لقاء بين رجل وامرأة لمدة ساعات متصلة، ومع ذلك لن نخرج سوي بحالة شروع في حب واحتمالات مفتوحة، ونافذة تطل علي برج كنيسة تدق أجراسها، وهناك حوارات عقلانية لا تتوقف تنتهي إلي مشاعر وأحاسيس مُعلَّقة، هناك تلاعب ذكي بين الأصل والنسخة المأخوذة عنه، وبين التعقيد والبساطة، وبين الواقع والمثال، وبين العمل الفني كما أراده صاحبه، والعمل الفني كما يراه الناس، وكلها أفكار فلسفية مهمة في صميم معني الفن وفي صميم معني الحب، وهما المحوران الرئيسان للفيلم البديع. لا تستطيع أن تصنف الفيلم الذي عرض في المسابقة الرسمية في مهرجان كان الأخير، وحصلت بطلته «چولييت بينوش» علي جائزة أفضل ممثلة، علي أنه دراما رومانسية، الأقرب أن نقول أننا أمام فيلم فلسفي ينتهي إلي فتح الأبواب علي أجواء رومانسية مُحتملة، بطلا الفيلم علي طرفي النقيض تقريبًا: اسمه «چيمس»، مؤلف انجليزي جاء إلي «توسكانيا» لتقديم الترجمة الإيطالية من كتابه «نسخة طبق الأصل» الذي يبدو عملاً فلسفيًا يقترب من دراسات علم الجمال، واسمها «هي» - أي مجهولة الاسم، فرنسية تعيش في إيطاليا منذ 5 سنوات مع ابنها الصغير، في حفل التوقيع علي الكتاب تشتري عدة نسخ، وتكتب رقم تليفونها للمترجم الإيطالي ليعطيه للمؤلف، وعندما يتصل بها الأخير يخوضان رحلة مشتركة تستمر لساعات إلي أن يحين موعد سفر «چيمس» إلي وطنه في الساعة التاسعة، تبني السيناريو علي حوارات طويلة، وانتقالات للبطلين إلي أماكن محدودة (ميدان - مطعم - حجرة في فندق)، وقد يبدو للوهلة الأولي أننا أمام دردشات نظرية لا تتوقف، ولكن «كياروستامي» سينجح في تحويل كل طرف إلي رؤية نفسه في مرآة للطرف الآخر، وإذا كنا سنبدأ - ولفترة طويلة - بحديث العقل حول الأصل والنسخة المأخوذ عنها (وهو موضوع الكتاب)، فإننا سننتهي إلي لعبة يمارس فيها «چيمس» دور زوج «هي» الغائب، أي أننا أمام محاولة لاستنساخ حب مفقود، وإذا كنا سنبدأ بالحديث عن أفكار مثالية نظرية فإن الفيلم سيهبط تدريجيًا إلي الواقع المحسوس، وإذا كنا في البداية أمام رجل وامرأة يتجادلان ويتلاعبان بالتعقيدات اللفظية، فإننا سننتهي أمام رجل وامرأة يحاولان اكتشاف عالم العاطفة، وإذا كانت اللعبة ستبدأ معقدة نسبيًا بالتركيز علي معني النسخة المقلدة وأهميتها، فإنها ستنتهي إلي درجة كاملة من البساطة، مجرد رجل وامرأة يحاولان استدعاء عواطف هاربة. قلت إن لقاء الرجل والمرأة كان مناسبة لفتح ملفيّن كبيرين هما: الموقف من الفن، والموقف من الحب، وقد وجد «كياروستامي» أن فكرة الأصل والصورة هي التي يمكن أن تكون جسرًا للعبور بين القضيتين الكبيرتين «چيمس» يشرح في بداية الفيلم فكرته في أن النسخة المأخوذة عن الأصل تلفت الاهتمام إلي الأصل، ويوسع الدائرة كثيرًا عندما يعتبر البشر ما هم في الحقيقة إلاّ نسخ من الآباء والأجداد، وفي حوار مع «هي» يكاد ينفي «چيمس» فكرة وجود الأصل، ثم يفترض وجود أصول، وعندما يذهبان - «چيمس» و«هي» - إلي متحف تُعرض فيه لوحة بعنوان «چيوكندا توسكانيا» اكتشف أنها مجرد نسخة مزيفة عن لوحة أصلية بعد 200 عام من انخداع الناس بها، هنا يجادل «چيمس» بأنه حتي الچيوكندا الأصلية التي رسمها «دافنشي» ما هي إلاّ نسخة مقلدة للسيدة التي تم رسمها، يعني كل هذا الجدل أن «چيمس» عندما ينتصر لفكرة النسخة وليس الأصل إنما ينتصر لفكرة الفن نفسها التي لا تعني - في الحقيقة - إلاّ النسخ الخلاّق للواقع الأصلي، وبنفس المنطق والحماس لفكرة النُسخة فإن «چيمس» يوافق - بعد تردد - أن يكون النسخة البديلة لزوج «هي»، في البداية يذهبان إلي كنيسة تُعقَد فيها الزيجات، ثم يوافق علي التقاط صورة مع «هي» وسط عروسين بدعوي أن الإنجليزي الزائر والفرنسية المقيمة زوجان منذ 15 عامًا، ثم تتطوّر اللعبة بدعم من «هي» التي تتجمل ل«چيمي» في المطعم، ثم تصطحبه في النهاية إلي الفندق الذي قضت فيه أيام شهر العسل، الحقيقة أن «كياروستامي» يكاد يشعرنا بالحيرة حيث بدا كما لو أن «چيمس» هو الزوج الفعلي ل«هي»، هنا تاهت الفروق تقريبًا بين الأصل والنسخة، وإن كانت لعبة الاستنساخ قد أتاحت للزوجة «الفضفضة» وكأنها تكلم نفسها في المرآة. لن تجد ثنائية الحب والفن والفن فقط في علاقة هي و«چيمس»، ولكننا سنجدها في علاقة لم نرها ولكننا نسمع عنها طول الوقت، إنها حكاية «ماري» - شقيقة «هي» التي تؤمن بالبساطة في كل شيء ولذلك اختارت الزواج من شخص أكثر بساطة ينطق اسمها بصعوبة، ويتعامل معها بالعواطف والأحاسيس، ليست المسألة بينهما مجرد قصة حب أو اتفاق علي فكرة أن الحياة أبسط من أن نُفلسفها، ولكن لها علاقة أيضًا بالموقف من العمل الفني، لقد اختارت «ماري» أن تري في زوجها الذي «يتهته» معني البساطة التي تنشدها في حين يبدو هو أقرب إلي الشخص الساذج، وسنلاحظ أن الفيلم سيقوم تنويعات علي فكرة ما يراه الناس في الآخرين وفي العمل الفني وليس حقيقة ما هو عليه هذا العمل بالفعل، مثلاً.. زّوار المتحف تعاملوا مع اللوحة المنسوخة علي أنها أصلية طوال 200 عام فكانت، و«ماري» تعاملت مع زوجها الساذج علي أنه الرجل المثالي فكان، والابن الصغير تعامل مع المؤلف علي أنه الحبيب القادم لأمه فكان، وعاملة المطعم البدينة أصرت علي أن المؤلف هو زوج السيدة الفرنسية فاكتملت اللعبة، هنا قيمة إضافية للفن والحب معًا، وهي رؤية العشاق والجماهير التي تكاد تجعل من أي نسخة مُقلدة صنعها عاشق أو فنان ما تتفوق علي الأصل، بمسافات بعيدة، وكأن كل قصة حب، وكل قطعة فنية تُنسخ من جديد كلما قال فيها عاشق أو متلقي رأيًا إضافيًا، والحقيقة أن فكرة النسخ والأصول هي فكرة فلسفية «أفلاطونية» بامتياز. الفيلم - بهذا المعني - يكاد يقول إنه لا جديد في الفن، ولا جديد في الحب، الجديد في مهارة الناسخ عن الأصل، والجديد في استقبال الناس للعمل المنسوخ، الجديد في مهارة «دافنشي» بنْسخ ابتسامة امرأة غامضة، والجديد في أن يستقبل كل إنسان هذه الابتسامة الملهمة بطريقته الخاصة، الجديد ليس في أن تلتقي امرأة مع رجل لساعات، ولكن الجديد في أن يعيدا رؤية الحب والفن والعالم بأكمله من خلال هذا اللقاء، يبدأ اللقاء وهما يتحاوران ويتحدثان حديث العقل، وينتهي وبينهما حديث القلب، يبدأ «چيمس» نظريًا مثاليًا وينتهي أكثر واقعية، وأكثر ابتعادًا عن التعقيد، يكتشف المؤلف العظيم في النهاية أن البحث عن البساطة والعاطفة المنطلقة أصعب بكثير من البحث عن التعقيد والتلاعب بالألفاظ، ربما بذل جهدًا هائلاً لكي يتوصل إلي أن النسخة هي الأهم فانتصر لكل القطع الفنية ولكل حكايات الحب المتكررة، ولكنه يحتاج إلي بذل مجهود أكبر لكي يستقبل الفن، ولكي يعرف ما هو الحب الحقيقي. ينتهي جدل الحب والفن بفشل التجربة، كانت «هي» تأمل في مواصلة الحكاية للنهاية فأخذت «چيمس» إلي فندق شهر العسل مع زوجها، ولكن «چيمس» ترك المكان وإن ظلت النافذة مفتوحة، دقت الأجراس في الكنيسة المجاورة فانتهت اللعبة، هل خاف «چيمس» من أن يكون هو نفسه «نسخة طبق الأصل؟» هل خاف أن يعود بسيطًا في نفس مكانة زوج «ماري» الساذج؟ هل رفض من داخله أن تراه «هي» بعيونها مثلما اختلفت معه حول رؤيتها لأحد التماثيل؟ يقول «كياروستامي» هنا إن هناك عقبة ما أمام أن تكتمل مسرحية الحب والفن معًا، ربما لأن الطرفين «أعقل من اللازم»، وربما لأن الكتاب الأول بحاجة إلي كتاب آخر قادم، ومَنْ يدري فقد يعود «چيمس» ليتأمل من نافذته «هي» وابنها الصغير فيصنع كتابًا جديدًا من وحي المشهد كما حدث في الكتاب الأول ولكنه سيكون هذه المرة أكثر إدراكًا لمفهوم الحب والفن. يتأمل «كياروستامي» بإيقاع هادئ بطيء مواقف أبطاله الذين يجسدون أفكارًا أيضًا، بل ويتجادلون طوال الوقت، ولأن الحوار طويل فإنه لابد أن يكون جذابًا وساخرًا، كما يجب أن يكون لديك اثنان من المشخصاتية الكبار، «چولييت بينوش» في دور شديد الصعوبة وإن كان يبدو سهلاً، الصعوبة في أنها مجرد «هي» أي أنها كل نساء الدنيا: الأم والزوجة والعاشقة وصاحبة العمل، ولكن رغم إعجابي الشديد بأدائها إلاّ إنني أعتقد أن جائزة أحسن ممثلة كان يجب أن تذهب إلي الكوريّة الجنوبية الرائعة.. يون جانج هي عن دورها الاستثنائي في فيلم «شِعْر». أما «ويليام شيمل» الذي لعب دور «چيمس» فقد بدا راسخًا وقويًا رغم أنه في الأصل مطرب أوبرالي، ومثلما تلاعب «كياروستامي» بفكرة الأصل والنسخة تلاعب باللغة حيث نسمع خليطًا من الإنجليزية والفرنسية والألمانية وكأن موضوع الحوار إنساني عام عابر للغات، مع توظيف تماثل اللغة أو اختلافها بين الطرفين وفقًا لمؤشر العاطفة والعقل ارتفاعًا وانخفاضًا، علي مستوي الصورة: استخدام «كياروستامي» عمق الصورة ومقدمتها بصورة ذكية خاصة في مشاهد العرائس داخل الكنيسة، أو في مشهد «چيمس» داخل المطعم في حين توجد خلفه نافذة تطل علي حفل زفاف، أو في مشهد «چيمس» داخل المطعم في حين توجد خلفه نافذة تطل علي حفل زفاف أو في مشهد «چيمس» عندما يغادر الكادر فيظهر خلفه شباك يفتح علي كنيسة، تحررت الكاميرا أيضًا في بعض المشاهد فتحركت في الشوارع وفي الميدان أمام التمثال، ولكن أذكي ما فعله المخرج أنه جعل بطليه ينظران مباشرة إلي الكاميرا وخصوصًا «هي» التي بدت وكأنها تتزين أمام مرآة، وأرجو ألاّ تنسي أن المرايا هي أيضًا أدوات لنسخ الأصول (فكرة الفيلم بأكمله). قالت «چولييت بينوش» إنها كانت تحلم بالعمل في فيلم طويل يخرجه «عباس كياروستامي»، وعندما ذهبت إليه في منزله بإيران، حكي لها لمدة أربعين دقيقة تفاصيل مغامرة حدثت له في إيطاليا مع امرأة وفجأة سألها: «هل تصدِّقين ما أرويه»؟ فقالت: «نعم»، هنا قال لها: «ولكن كل ما حكيته مجرد خيال»، فردت بسرعة: «فليكن ذلك هو الفيلم»، ربما تفسِّر هذه الحكاية كيف وُلدت بذرة صناعة فيلم عن الحب وعن الفن معًا ، وربما تكشف أيضًا عن دور المتلقي الذي يضيف الصدق والمعني والأهمية علي الحب والفن معًا، ولعلها مناسبة لكي أؤكد لك أنني قدمت لك قراءتي للفيلم دون أي مصادرة علي قراءتك أنت عندما تراه، فهذا هو أعظم ما قاله «كياروستامي»: «عش حياتك، فكر، تأمل، حرّر عواطفك، ثم اصنع نسختك الخاصة فتصبح أكثر أصالة من الأصل»!