لا أعتقد أن الحزب الوطني كان يخوض هذه الانتخابات المنقضية بقصد القضاء علي أحزاب المعارضة.. الهدف الحقيقي المعلن والواضح، والصريح والذي لا لف ولا دوران فيه، هو أن حزب الأغلبية كان يسعي إلي سحق جماعة الإخوان باعتبارها تنظيماً غير شرعي، يمثل تهديدًا للدولة المدنية وخطرًا استراتيجيا علي مؤسسات الدولة المصرية، من خلال استغلاله للمتاح ديموقراطيا عبر آليات البرلمان. حقق «الوطني» هدفه الأهم، والأول، بل إنه خاض هذه المعركة تجاه الإخوان من منطلق مسئولياته كحزب كبير، وموقعه كصاحب أغلبية، مدافعا عن مكانته، ومتصديا عن المجتمع، وملبيا لمتطلبات دوره، وبالنيابة عن الجميع.. إذ تخلت القوي السياسية عن مواجهة الإخوان وصارت تتعامل معهم علي أنهم حقيقة واقعة بل ومستقبل قادم.. ووصل الأمر من البعض إلي حد التحالف معهم.. ومن المدهش أن الجماعة كانت تجد خطبا لودها من قبل مجموعات سياسية لن يكون لها وجود من الأصل في حالة ما تمكن هذا التنظيم غير الشرعي من السيطرة علي مقدرات الحياة العامة. النفي والإقصاء هو أقرب خطر يمكن أن تمثله الجماعة.. وليست قصة المرشح مجدي عاشور ببعيدة.. عضو الجماعة الذي خالف توجهها وقرارها بالانسحاب من الانتخابات حين لاح في الأفق أنه سوف يخوض الانتخابات في دائرة النزهة كان أن تم اختطافه وإبعاده ليس عن الدائرة وحدها.. وإنما عن القاهرة برمتها.. لولا أن أهله طلبوا الاستنجاد بأجهز ة الأمن.. فتم البحث عنه. المقاعد ال 88 التي كانت في حوزة الإخوان كانت بدورها مختطفة وأحزاب في المعارضة كانت تسلم قيادها لجماعة الإخوان.. وقوي غير قانونية أخري راحت بنفسها تعطي للإخوان مقود تحريكها وتطلب دعمها.. ومن ثم فإن الخطر علي الدولة المدنية من تنظيم سري وجماعة متطرفة تؤمن حتي اللحظة بأدبيات الإرهاب وأيديولوجية مبرراته لم يكن يكمن فقط في الإخوان وإنما كذلك من الموالسين معهم ولهم.. أو أولئك الذين أداروا العملية السياسية الخاصة بهم في إطار صراعهم مع الحزب الوطني بمنطق «النكاية والغيظ». الآن هناك ثلاث حقائق: الإخوان خارج البرلمان.. المعارضة تواجه حقيقة وضعها المتقلص بفعل تقصيرها المتخاذل.. الوطني لديه أغلبية كاسحة. الأولي حقيقة تسعد أي حريص علي صالح هذا البلد ولا تنفي أن المعركة ما زالت مستمرة وسيكون لنا فيها أمور أبعد فيما بعد.. الثانية تفرض تساؤلات واتهامات وتضع علي كاهل المتسببين فيها محاسبات.. الثالثة تضع علي الأغلبية مسئوليات كبيرة جدًا. من حق الحزب الوطني أن يباهي بإنجازه.. اجتهد عن حق وبذل الطاقة والمال وأعمل عقله وأدار ماكينته السياسية ونال قصب السبق.. ولكن هذه السعادة التي تنتاب مسئولي الحزب ليس عليها أن تسكرهم بنشوة مستمرة.. راحت السكرة وجاءت الفكرة.. الفوز الكبير كما أنه له أسباب كبيرة وعديدة.. يفرض تبعات مختلفة.. والأغلبية الكبيرة توجب علي الوطني أن يتحمل مسئوليات كبيرة.. بل وأكبر من الأرقام الاكتساحية التي حققها. ولهذه المسئولية الكبيرة أوجه متنوعة: أولاً: لابد أن يشعر الناس أن ما جري هو في صالحهم، أن للثقة التي أعطوها للحزب الكبير منفعة عظيمة تغير في شئون حياتهم.. لقد وجه الناخبين رسالة قاسية إلي نفس الحزب في عام 2005 .. وقد تلقاها واستوعبها.. وفهم ما فيها وتعامل معها بنفس القدر من أهمية ما ورد في الرسالة.. ومن ثم فإنه تلقي رسالة مناقضة حين عبرت نتائج انتخابات 2010 عن أمر مختلف تماما.. قال الناخب للحزب إنه يثق فيما يعرض وأنه استجاب لمرونة الحزب في التعامل مع رسالة 2005 .. ولكن رسالة 2010 هي بدورها قاسية جدا رغم ما تتضمنه من إيجابيات.. التصويت العقابي كان لطمة.. والتصويت المؤيد بهذه الطفرة يمكن أن يصبح قصمة.. لأن وزنها ثقيل.. كلاهما يستوجب الإفاقة. الناخبون لابد أن يشعروا أن معيشتهم تبدلت.. أن تلك الأغلبية سوف تحقق مصالح أكبر.. سوف تحدث نقلة نوعية.. سوف تفيدهم.. إنهم لم يخطئوا حين منحوا الحزب الوطني تلك الثقة المفرطة.. وأن الأغلبية قادرة علي استيعاب هذه التخمة البرلمانية فلا تصاب بالوخم والاسترخاء.. وإنما أن تبقي يقظة قدر ما يمكنها.. تمارس التشريع الذي يحقق انتقالة عصرية.. وتقوم بدورها الرقابي الذي يؤدي إلي محاسبة أصيلة لا تمثيلية.. وتؤكد دور مجلس الشعب.. وترسخه في إطار دولة مدنية ومتطورة.. تتوزع فيها مهام السلطات. ثانيا: سوف ينتهي الحديث الأجوف عن شرعية مجلس الشعب، وما إذا كان باطلاً من عدمه، وفق ما تردد بعض أصوات المعارضة، سينتهي خلال أيام، ليس لأنه كلام يجب تجاهله ولكن لأنه كلام لا يقوم علي أساس، والقاعدة كما ذكرت من قبل هي: الانتخابات تكتسب شرعيتها بمن حضر من المصوتين والمجلس يكتسب شرعيته بمن انتخب بغض النظر عن انتمائه السياسي.. القانون لا يبني شرعية البرلمان علي أساس أن هذا يمين وهذا يسار.. وإنما علي أساس شرعية العملية الانتخابية. ولكن المهم هنا هو أن أغلبية الوطني ليس عليها أن تتجاهل حقيقة أن شرعيتها تفرض عليها واجبات سياسية إضافية.. تجاه المجتمع الديمقراطي برمته.. وأن حزبيتها وإخلاصها لانتمائها لا يعني أن عليها أن تتجاهل الواقع الحزبي المرير خارجها.. الدول تصطنع خصومها لكي تبقي علي تنافسية محفزة لتحريك شعوبها.. والأحزاب الكبيرة لابد أن تساعد الأحزاب الصغيرة، ليس من أجل أن تلتهم مواقع الوطني وإنما من أجل أن يبقي الوطني «التعددية» متأججة.. والمنافسة قائمة.. والحيوية مستعرة.. والحراك الذي نفاخر به ملتهبا. لقد أدي تراجع السياسة إلي أن ملأت فراغ الأحزاب قوي غير قانونية، راحت تطعن فيها، وتؤذيها، ولم تنتبه الأحزاب إلي ما تتعرض له، بل ومضت تساعد من يقتلونها علي أن يذبحوها مرة تلو أخري.. وها هي تحصد الآن نتائج التخاذل والالتفافات وعدم وضوح المواقف.. والوطني إذا كان ليس مسئولا عن ذلك فيما سبق فإن عليه أن يتحمل مسئولياته فيما لحق.. ليس من أجل إنهاض أحزاب لا يمكن لها أن تصمد وليس من أجل اصطناع قوي لا توجد تعبيرات عنها في الشارع.. وإنما من أجل أن يحمي تطبيق أحد أهم مواد الدستور وهو: نظام مصر يقوم علي التعددية الحزبية.. إنه العمل من أجل المبدأ وليس من أجل الأحزاب. إن تلك بعض المسئوليات الكبيرة التي يجب أن تتبوأها الأغلبية الكبيرة.. ولم يزل هناك المزيد. www.abkamal.net [email protected]