تتحدد مكانة الجامعة في هذا العصر حسب إسهاماتها البحثية والفكرية بغض النظر عن دورها في التعليم والتدريس.. كلنا يعرف أن معظم المعايير التي تستخدم لترتيب الجامعات وتصنيفها تعتمد علي البحث العلمي.. فتصنيف جامعة شنغهاي جياو تونغ الصينية يقوم علي المعايير التالية: 1- قدرة خريجي الجامعة علي نيل الجوائز العالمية (مثل جائزة نوبل). 2- عدد الأساتذة الحاصلين علي جوائز وأوسمة عالمية كجائزة نوبل ووسام فيلدز. 3- الأبحاث المتميزة لأساتذة الجامعة كما هي مدرجة في دليل النشر العلمي ودليل النشر للعلوم الاجتماعية ودليل النشر للفنون والعلوم الإنسانية ومعدل اقتباس الباحثين من هذه الأبحاث العلمية.. 4- الأداء أو الإنجاز الأكاديمي للجامعة مقارنة بحجمها وفي ضوء المعايير السابقة.. لعل هذه المعايير تعتبر أن دور الجامعة الرئيسي هو إنتاج الأبحاث العلمية وأن الأساتذة لا وظيفة لهم في هذه الجامعات سوي إجراء الأبحاث ونشرها في دوريات علمية معترف بها.. من الواضح أن هذه المعايير لا تلتفت إلي الدور التعليمي للجامعات ولا تنظر إلي الأستاذ كمعلم ينقل المعرفة إلي الأجيال الأخري ولا يدرب الطلاب علي امتهان وإتقان مهن بعينها كالتدريس والطب والهندسة والمحاماة. من المفيد أن نتوقف قليلا للتعرف علي ماهية الجامعة والهدف من إنشائها.. إن العالم اليوم بات مهتما بالتعليم العالي ويسعي للوقوف علي أهدافه.. لقد نظمت جامعة رودز في جنوب أفريقيا في شهر أكتوبر الماضي ندوة حول «أهداف التعليم العالي» حيث شارك فيها أساتذة من الجامعات الأوروبية والأمريكية ومنهم الدكتور جوردون جراهام أستاذ الفلسفة والآداب بجامعة برينستون الأمريكية الذي قدم لنا ثلاثة نماذج للجامعات في تاريخ التعليم العالي حول العالم: الجامعة كمقر لتعلم مهنة بعينها والجامعة كهيئة بحثية والجامعة التقنية التي تهدف إلي تدريب الطالب علي استخدام التكنولوجيا. 1- الجامعة المهنية إن الغرض من التعليم في الجامعة المهنية لم يكن للحصول علي المعرفة من أجل المعرفة بل من أجل تعلم مهنة من المهن.. من الملاحظ أن الجامعة كمقر لتعلم مهنة دينية أو قانونية تعد من أقدم وظائف الجامعة الذي علي أساسه نشأت أشهر الجامعات الأوروبية مثل جامعة بولون (1088م) وجامعة باريس (1160م) وجامعة أكسفورد (1069م).. لعل هذه الجامعات الأوروبية كانت بمثابة مؤسسات لتخريج مهنيين كالقساوسة والمحامين وفيما بعد رجال الطب.. كما حذت حذوها مؤسسات التعليم العالي في المستعمرات الأمريكية، حيث وضعت الكليات الناشئة الأسس لجامعات مهمة كجامعة برينستون في نيوجرسي (1746م) وجامعة كولومبيا في نيويورك (1754م). 2- الجامعة البحثية الجدير بالذكر أن الكليات المهنية قد كافحت من أجل البقاء في النصف الثاني من القرن 19 الذي شهد مولد الجامعات البحثية حين أسس اللغوي والمصلح التعليمي وليام هامبولت جامعة برلين في عام 1810م.. وكانت هذه الجامعة البحثية عبارة عن مجتمع يضم علماء وباحثين كرسوا حياتهم لإجراء الأبحاث بصرف النظر عن قيمتها التربوية أو وظيفتها وفائدتها الاجتماعية.. وقد نشأت جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية (1876م) علي غرار جامعة برلين التي أصبحت نموذجا لجامعات الدرجة الأولي الرائدة في مجال البحث العلمي الذي يهدف إلي إنتاج المعرفة من أجل المعرفة وليس بغرض التعليم.. اللافت للنظر أن هذا النموذج للجامعة البحثية له نقاده حيث يعده البعض برجا عاجيا يهتم بالأمور الغامضة التي لا علاقة لهة بضروريات الحياة العادية.. وهذه النظرة كانت ضارة بهذه الجامعات التي تعتمد علي أموال دافعي الضرائب.. لقد ظل المواطنون يتساءلون: لماذا تنفق الأموال العامة علي قاطني الأبراج العالية الذين يقومون بإجراء أبحاث لا تعود بالفائدة المباشرة علي المجتمع؟ 3- الجامعات التقنية لعل تلك النظرة النفعية للجامعة ولدورها الفعال في رفاهية وتقدم المجتمع المحيط بها أدت إلي تزايد الطلب علي تعليم تقني ومفيد للمجتمع مما ساهم في بزوغ نجم نموذج آخر للجامعة حيث يتم تقديم تعليم عملي ذي مستوي متقدم.. كما كان هذا دافعا لإنشاء جامعات تابعة للولايات المتحدة في أمريكا في نهاية القرن 19 (مثلا جامعة أريزونا عام 1885م) وهذه الجامعات استفادت من قانون موريل في 1862 و1890 الذي بموجبه تخصص كل ولاية قطعة أرض لإنشاء كليات تهتم بتدريس الزراعة والعلوم والهندسة لمواكبة التطورات التي أحدثتها الثورة الصناعية التي انطلقت في بريطانيا في القرن الثامن عشر.. وهذا التوجه أسفر عن تبني سياسة تقصر البحث الأكاديمي علي الأمور التي تمثل فائدة للمجتمع. لا شك أن دراسة ومقارنة هذه النماذج المختلفة للجامعة قد تساعد في توضيح الاختيارات المستقبلية التي تتخذها الجامعات المصرية والعربية لمواجهة المشكلة التي طالما أرقت مضاجعها وهي كيف تعمل الجامعة علي المواءمة بين المحافظة علي استقلاليتها ودورها تجاه المجتمع والطلاب الذين هم في حاجة إلي المعرفة التي تثري حياتهم.