للشتاء ذكريات وللصيف أيضا. حين تتحدث عن ذكريات الشتاء يبدو لك الأمر وكأنك تتحدث عن أسرار.وحين تتحدث عن ذكريات الصيف يبدو لك أنك تتحدث عن شيء يعرفه الجميع. ربما يرتفع صوتك وأنت تتحدث عن ذكريات الصيف لكنه لابد أن ينخفض وأنت تتحدث عن ذكريات الشتاء.يبدو الأمر كانك تفعل ما تتذكره ويبدو لك الزمان كأنه هو الذي جرت فيه الأحداث. الذكريات. لقد انتظرت الشتاء هذا العام طويلا أكثر مما انتظرت أي شتاء.ذلك أني تعودت أن أكتب فيه رواياتي وقصصي.ويحزنني كل يوم إنه لم يات بعد. لم أعوّد نفسي أن أكتب القصص والروايات إلا في الشتاء. عادة سكندرية مشت معي طول عمري. ففي الصيف كنا نخرج من البيوت ولا نعود إلا في الصباح. في الشتاء مستقر لنا. وفي الشتاء ينام الجميع من حولك في كل الدنيا. وليس في البيت فقط.وحتي لو استمعت الي صوت مفاجئ في الخارج تندهش. لابد انه زائر غريب.من أين هو ياتري؟ انتظرت هذا الشتاء وكل يوم ألعن الاحتباس الحراري الذي غير المناخ في العالم. وألعن أكثر الذين ردموا بحيراتنا ، بحيرات مصر العظمي فأضافوا احتباسا علي احتباس. وأنظر للكتب التي في لقاء الاثنين بقصر ثقافة الحرية في اواخر الستيينات وأوائل السبعينيات ثم انتقالنا الي مقهي الكريستال علي الكورنيش لتكملة السهرة والحديث في احلامنا التي نعود اليها ليلة الجمعة ونحن نلتقي في منزل الصديق الناقد عبدالله هاشم الذي لا يزال يحافظ علي هذه الندوة وإن اختلفت الوجوه وتكملة النقاش والأحلام. لكن اجمل ليالي الشتاء كانت في شارع تانيس. كان المرحوم الدكتور عثمان أمين يأتي يوم الاربعاء ليدرس لنا مادة الفلسفة الحديثة نحن طلاب ليسانس الفلسفة ، وكان ذلك يوم الأربعاء. كانت المحاضرة تبدأ في الخامسة مساء وتنتهي في السابعة. وما ادراك ما السابعة في الشتاء زمان. بعد ذلك يأتي معنا الي شقة استأجرناها في شارع تانيس الشهير، وتبدأ سهرتنا معه حتي ينتصف الليل يحكي لنا ذكريات شبابه مع الكتاب والمفكرين المصريين قبل الثورة ونناقش كتبه ويناقشنا في أفكارنا.. كان من رواد هذا اللقاء معنا الدكتور شبل بدران بكلية تربية الإسكندرية الآن والشاعر حسن عقل الذي استقر في باريس والصحفي محمد رفاعي والمسرحي سيد حافظ والمخرج المسرحي مراد منير في بعض الأحيان ولم يكن من طلاب الاداب ولا التربية. كان من طلاب الحقوق لكنه كان صديقا لنا بحكم حبه للمسرح وحبنا للادب وآخرون أخذتهم الحياة الي أماكن وأعمال اخري. ورغم أني من الاسكندرية وشبل بدران الا اننا كنا تقريبا نعيش مع زملائنا الريفيين الساكنين هذا الشارع.علمنا عثمان امين الليبرالي النزعة تقبل الأفكار الأخري وتقبل الآخر وقال لنا إن ابرز تلاميذه كانوا شيوعيين مثل محمود امين العالم وأمير اسكندر. وكنت انشر بعض القصص والمقالات كان يقرؤها ويثني عليها ويشجعني . كنت اأدهش منه هو صاحب الفلسفة الجوانية المثالي النزعة يقول إن ابرز تلاميذه كانوا شيوعيين. وحين مات عام 1979 قرأت في مجلة الوطن العربي التي كانت تصدر في باريس مقالا جميلا لامير اسكندر الذي كان يعيش ذلك الوقت هناك مع كثير من الكتاب المصريين الذين لم يتسع لهم نظام السادات. قرأت له مقالا يرثي فيه عثمان أمين ويعيد ما قاله لنا كيف كان وهو المثالي النزعة يتسع صدره لليساريين قبل الثورة ويحترمهم. كان حديثه هو المدفأة في ليل الشتاء وكنا نذهب لتوصيله آخر السهرة الي محطة الرمل حيث سيبيت ليلته في فندق إليما البسيط ولا نشعر بالبرد إلا بعد أن نتركه في طريق عودتنا الي الشقة. لم اشعر ابدا بالبرد في الاسكندرية في الشتاء فأحاديث الثقافة والادب كانت من القلب خالية من الإحن والاغتياب وليس مطلوبا منها مال ولا جاه. وبعيدًا عن الثقافة وأحاديثها كنت أعمل أيام الجامعة في شركة الترسانة البحرية. بالذات في محطة الكهرباء الرئيسية وأختار دائما وردية الحادية عشرة مساء وتستمر حتي الصباح. أجلس بالمحطة لا عمل لي إلا تسجيل ما تقرؤه عدادات المحطة من استهلاك، أو قطع التيار الكهربي عن أي ورشة ينتهي العمل بها. وكانت فرصة لأذاكر دروسي وأقرأ كتبي، معي فني مساعد لي كان في الأصل تلميذا لي أيضا وأنا أقوم قبل ذلك بالتدريس في مركز تدريب الترسانة. وهو العمل الذي تركته لالتحق بالمحطة لأجد الوقت بالنهار للذهاب الي الكلية. وأجد الوقت بالليل للمذاكرة والقراءة وحولي في الفضاء هواء البحر وصوت الموج لكني لم أشعر بالبرد ابدا.كان المطر يسقط ونسمع صوت دفقاته لكن اندماجي في القراءة والمذاكرة كان يدفئني غاية الدفئ ويقوم مساعدي بعمل الشاي والقهوة حتي الصباح.كنا نسمع نباح الكلاب فنضحك لأننا بالنهار لا نري كلابا. وكان هناك زملاء في محطة تحضير الاكسجين القريبة يذاكرون مثلي يأتون أحيانا لنسهر معا نقطع القراءة والمذاكرة. يطلع النهار فاكتشف ان هناك دنيا واسعة بيضاء. آخذ طريقي إلي الكلية نشطا رغم السهر ولا أري حولي إلا فضاء جميل معبأ بالآمال. هذا قليل من كثير أتذكره عن الشتاء. لماذا أتذكره الآن؟ ليس لأروي لكم قصة كفاح فهذا بعيد عن خاطري ولكن لأني بحق حزين لابتعاد الشتاء عنا كل هذا الوقت. أجل. حزين لابتعاد الشتاء عن البلاد.