كتب - د. عبد الله المدنئ علي حين ظل الفساد ينخر معظم المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية والقضائية في باكستان ويلطخ سمعة وتاريخ رموزها علي مدي العقود الستة الماضية منذ انفصال الأخيرة عن الهند البريطانية وقيامها ككيان مستقل فإن المؤسسات الدستورية الهندية خصوصا مؤسسة الجيش ذات الاحترام الكبير والتاريخ النظيف المشهود بالخضوع للمؤسسات الديمقراطية المدنية ظلت بعيدة عن مثل هذه الحالات مع استثناءات قليلة تمثلت في فساد عدد قليل من ساستها ولا سيما المحليون منهم واكتشاف بضع حالات فساد في صفوف ضباط الجيش ممن حاولوا قبض العمولات أثناء عقد صفقات تحديث معدات الجيش أو أثناء توقيع اتفاقيات بناء المنشآت العسكرية أو ممن حاولوا تحويل وجهات المعونات الخارجية أو تهريب سلع تافهة مخصصة لمنسوبي الجيش لصالحهم كالسجائر والمشروبات الكحولية والوقود والأغطية والملابس والخيام. غير أن الأمور تغيرت بشكل دراماتيكي وسريع خلال السنوات العشر الماضية وبالتزامن مع ما شهدته وتشهده الهند المترامية الأطراف والمثقلة بعدد ضخم من السكان والأجهزة البيروقراطية المركزية والمحلية من عمليات تجديد للبنية التحتية وتدشين للمشاريع الإنمائية والصناعية والعسكرية الكبري من تلك التي تستهدف اللحاق بركب العصر ومواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. فإذا ما استثنينا ما حدث في العام الماضي حينما تمت عملية بيع مشبوهة لأراض تتبع ملكيتها لوزارة الدفاع في منطقة «سوخنا» بولاية «البنغال الغربية» بمساحة تقترب من الثلاثين هكتارا إلي مجموعة من المستثمرين المحليين في القطاع الخاص وهي العملية التي اكتشفت سريعا ونال المتورطون فيها عقوبات مختلفة في صورة مصادرة أموالهم وتخفيض رتبهم العسكرية أو نقلهم نقلا تأديبيا إلي وظائف دنيا فإن ما وقع مؤخراً أثار الدهشة والقيل والقال وأدي إلي فتح كل الملفات علي مصراعيها خصوصا وأن قضية الفساد الجديدة مست حقوق أرامل شهداء الجيش ممن قضوا دفاعا عن سيادة الوطن ووحدته أثناء الحرب الجبلية القصيرة مع باكستان في عام 1999 والمعروفة بحرب أو أزمة «كارغيل». وتتخلص حكاية الفساد الطازجة في أن التحقيقات الرسمية أدت إلي ثبوت تورط عدد من الساسة والبيروقراطيين المتنفيذين بالاشتراك مع مجموعة من كبار ضباط المؤسسة العسكرية في الاستيلاء دون وجه حق وعن طريق التزوير وتغيير شروط التملك علي عقارات فارهة لأنفسهم في مشروع سكني في منطقة «كولابا» التجارية الواقعة في الجزء الجنوبي من مدينة «مومباي» عاصمة ولاية «مهاراشترا» علما بأن المشروع المذكور تم الانتهاء منه في عام 2008. وفي سياق الكشف عن فضيحة الفساد هذه تمت الإشارة تحديدا إلي الجنرالين «ديباك كابور» و«نيرمان تشاندر فيج» إضافة إلي قائد القوات البحرية السابق الأدميرال «مانيندرا سينغ» والنائب السابق لقائد القوات المسلحة «شانتانو تشودري» كأشخاص ضالعين في تملك ما لا حق لهم فيه من خلال ترهيب مسئولي «الجمعية التعاونية العسكرية للإسكان» بل تم الإشارة أيضا إلي أن الجنرالين «كابور» و«فيج» قد سنا بنفسيهما اشتراطات تتيح لهما تملك عدد من الشقق السكنية التي يتجاوز سعر الواحدة منها اليوم 80 مليون روبية أو ما يعادل 1.8 مليون دولار أمريكي. من تلك الاشتراطات أن من يريد الانتفاع بالسكن يجب عليه تقديم أوراق وشهادات تثبت إقامته في «مومباي» «المدينة التي تشهد طفرة عقارية غير مسبوقة وغلاء فاحشا في أسعار الأراضي» لمدة لا تقل عن 15 عاما وكي ينطبق علي الجنرالين مثل هذا الشرط قاما باستصدار شهادات مزورة بهذا الخصوص وقدما أوراقا مفبركة. والجدير بالذكر في هذا المقام أن عملية الفساد هذه لم تكتشف إلا حينما بادر الأدميرال «سانجيف باسين» من قيادة القوات البحرية المرابطة في «مومباي» بالكتابة إلي كبار رؤسائه في وزارة الدفاع في «نيودلهي» شاكيا من وجود مخالفات جسيمة في اتمام المشروع السكني المذكور ومشيراً في الوقت نفسه إلي وجود مخاطر أمنية للمشروع كونه يطل علي منشآت عسكرية حساسة في المنطقة علاوة علي أضراره البيئية التي كانت الصحافة المحلية قد أشارت إليها في سنوات سابقة لكن المؤسسة العسكرية تصدت لها بالقول «أن الأراضي والمناطق التي تتبعها لا تنطبق عليها القوانين المدنية». وهكذا كانت رسالة الأدميرال «باسين» هي التي قرعت أجراس الإنذار ودفعت السلطات إلي فتح تحقيق واسع حول المشروع السكني في «كولابا» حيث تبين بعد الفحص والتدقيق الميدانيين أن المشروع الذي كان مقررا له ألا يتجاوز الأدوار الستة ارتفع إلي 31 دوراً بارتفاع 100 متر الأمر الذي جعله يكشف كل ما يدور داخل المنشآت العسكرية الحساسة القائمة علي شواطئ «مومباي» وبالتالي ففي استطاعة أعداء الهند «من انفصاليين كشميريين وماويين وجماعات إرهابية متشددة» استخدامه في القيام بعمليات هجومية ناجحة. وتعليقا علي هذه الحالة غير المسبوقة طالبت الصحافة الهندية الحرة في افتتاحيتها بضرورة تدخل الدولة بقوة قبل أن تستفحل الظاهرة وتتحول الهند إلي صنو لباكستان لجهة تفشي الفساد في أوصالها وعجز المؤسسات المدنية عن كبح جماح طموحات جنرالات المؤسسة العسكرية فيما كتب بعض نشطاء المجتمع المدني مقالات يحثون فيها حزب المؤتمر الحاكم وحزب «بهاراتيا جاناتا» المعارض إلي رص الصفوف وتكثيف الجهود لمكافحة مختلف ظواهر الفساد والإفساد بدلا من توجيه الاتهامات لبعضهما البعض حول من زرع بذور الفساد في المجتمع أولاً أو الدخول في سجال عقيم حول أيهما يملك تاريخا أكثر نصاعة ورموزا أكثر نزاهة. هذا علما بأن الحزب الحاكم بقيادة السيدة «سونيا غاندي» وجد نفسه في موقف دفاعي مؤخراً أمام حزب المعارضة علي خلفية طرد الأول لرمزين من رموزه الكبار وهما وزير الاتصالات «أنديموتو راجا» ورئيس حكومة ولاية مهاراشترا «أشوك تشافان» بسبب الغش وسوء التصرف والإخلال بالأمانة وهو ما نجم عنه خسائر فاقت الأربعين بليون دولار في سوق المبادلات المالية. علي أنه من المهم هنا التذكير بأنه طالما وجدت في الهند مؤسسات ديمقراطية شفافة وصحافة حرة وقضاء نزيه فإن جرثومة الفساد لن تنجح في التكاثر ومن يقتاتون عليها لن يستطيعوا الإفلات من العقاب أي علي العكس من الأمم ذات الأنظمة الشمولية والإعلام المقموع. * باحث ومحاضر أكاديمى فى الشان الأسيوي من البحرين ينشر هذا المقال بالتزامن مع صحف خليجية