تستحق انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي وحكام الولاياتالمتحدة عن جدارة لأن تتحول إلي مادة ثرية لطلاب العلوم السياسية حول العالم، ذلك لتفردها من حيث إدارة الحملة الانتخابية ووصولاً إلي فوز غير مسبوق للحزب الجمهوري وهزيمة نكراء للحزب الديمقراطي. صحيح أنها ليست المرة الأولي التي ينتزع فيها أحد الحزبين المهيمنين علي الساحة السياسية الأمريكية منذ نشأة الدولة، الأغلبية ومن ثم الزعامة في ظل وجود رئيس ينتمي للحزب المهزوم بالبيت الأبيض، ولكن اعتماد الساسة الجمهوريين علي عوامل خلقوها، وعوامل أخري فرضتها ظروف علي الأرض إضافة للاستخدام الماكر لنقاط ضعف الخصم كان هو سبيلهم إلي تحقيق هدف الفوز. لقد اعتمد الجمهوريون الذين تهيمن علي حزبهم منذ ما يزيد علي العقد أيديولوجيات يمينية يغلب عليها التطرف علي أربعة عوامل أساسية، أولها كان الوصول للناخب العادي عبر أولوياته ألا وهي الحالة الاقتصادية. فالناخب الأمريكي لا يهمه سوي حافظة نقوده وهو سريع النسيان وثقافته يكتسب معظمها من التلفاز، ولذا كان من السهل التأثير عليه بهذا العامل وبتكرار لا يتوقف لسيل انتقادات للإدارة الحالية بسبب تردي الوضع الاقتصادي وأرقام تتحدث عن نسبة غير مسبوقة من البطالة وفقدان الوظائف وصلت إلي 9.5%، وعبثا حاول أوباما الذي يؤخذ عليه التحرك متأخرًا لإفهام هذا الناخب بأن التدهور الاقتصادي سببه إدارة جمهورية سابقة، أو أن يشرح نجاح إدارته في وقف عجلة تدهور الاقتصاد كإنجاز وأن النمو قادم وفي الطريق. ولم يساعده حزبه الذي اعتمد علي وجوه قديمة ملها الناخب وبعضها مازال يحتل مقعده في الكونجرس منذ 24 عامًا، لقد كان الناخب الأمريكي غاضبًا لدرجة أراد من خلال تصويته للجمهوريين أن يعاقب الإدارة الحاكمة وكذلك الحزب الديمقراطي، ولم يأت تصويته لصالح الجمهوريين بسبب ولهه المفاجئ بهم، أيضًا لعب الحزب الجمهوري علي عامل الإعلام المضاد، ولم يكن مستغربًا أن تخرج عناوين الواشنطن بوست لكي تؤكد أن الذي يستحق أن يحتفي به بسبب هذا الفوز هو ميردوخ امبراطور الصحافة وقناته الإخبارية فوكس التي لولاها ما كان يسمح لما يعرف بحزب حفلات الشاي صوتا. وهذا صحيح فقد جندت فوكس كل قواها للدعاية لهذا التيار المتطرف علي كل الأصعدةش، وهو تيار تلقي دعمًا ماليًا غير مسبوق من قبل الكبار الذين أزعجهم أن يتحدي رئيس أمريكي أصحاب المال ويطالب بزيادة الضرائب علي كبار الأغنياء وتقليلها عن كاهل الأسرة المتوسطة أو أن يطالب بنظام رعاية صحية حكومية يقدم للمواطن وهو ما أزعج شركات التأمين الصحي متضخمة الثراء وأصحاب الصناعات الصغيرة. وانضم إلي هؤلاء لدعم التيار اليميني أصحاب المصالح بدءا من أسواق المال ب«وول ستريت» ومرورا بالشركات الكبري سواء للنفط أو ما يعرف بلوبي صناعة الحرب أو الصناعات التسليحية وصناعات الأمن وهؤلاء جنوا في عهد بوش - تشيني أرباحًا طائلة وعقودا بالمليارات تسدد من جيب دافع الضرائب الأمريكي ويهمهم أن تستمر الحاجة إليهم ولو عبر حروب تقوم بها أمريكا أو غيرها من الدول. كان هذا هو العامل الثالث الذي اعتمد عليه الجمهوريون بعد عوامل استخدام تدهور الاقتصاد والإعلام وتيار يميني جديد صوته عال بواسطة إعلام موجه رغم قلة عدده علي المستوي الأمريكي.. أما العامل الرابع فهو استغلال ثقة الخصم أي الديمقراطية الزائدة في أنفسهم بعد نصر كاسح في الانتخابات الماضية وهي الثقة التي أوكلتهم إلي التراخي ومحاولة امساك العصا من المنتصف في العديد من القضايا التي تهم الشارع الأمريكي، وتغاضيهم غير المبرر عن رسالة مهمة كان نفس الشارع قد أرسلها قبل أشهر بوضوح ذلك عندما عاقب ناخب معروف أنه مثقف بولاية ماساشوسيتس الديمقراطية وصوت لصالح شاب جمهوري لا يتمتع بأي تاريخ سياسي يذكر لكي يعتلي مقعد السيناتور الديمقراطي الراحل تيد كيندي أحد أعمدة الحزب الديمقراطي في عقر داره. لم يفهم الديمقراطيون الرسالة أو فهموها وتغاضوا عن معالجة الأمر فجاءت هزيمتهم النكراء في مجلس النواب ونجحوا في الاحتفاظ بأغلبية عادية وليست مطلقة في مجلس الشيوخ ستزيد من معاناة أوباما علي مدي العامين المقبلين لتمرير أية إصلاحات قام بها أو يعتزم المضي فيها. الثمن باهظ والمعركة التي ستشهدها الساحة السياسية الأمريكية علي مدي الأشهر المقبلة ستكون محتدمة بامتياز، فالجمهوريون لم يتوقفوا كثيرا هذه المرة عن الفوز بل بادروا بهجوم مضاد آخر أعلنوا فيه هدفهم الرئيسي وهو ضمان عدم فوز أوباما بفترة رئاسة مقبلة، بل سارعوا بالعمل لإعادة النظر في جميع الإصلاحات والتغييرات التي أحدثها خلال العامين الماضيين وعلي رأسها قانون الإصلاح الضريبي والرعاية الصحية ذلك علي المستوي المحلي. أما علي المستوي السياسة الخارجية فحدث بلا حرج حيث أعلنوا أنهم بصدد إعادة أمريكا القوية وسياسات هي توأم لسياسات بوش - تشيني بداية من عملية السلام ومرورا بمواجهة إيران ووصولاً إلي استخدم كارت الدمقرطة والمساندات الخارجية، وأدرجوا مصر بالفعل علي رأس الدول التي ينبغي النظر في حالتها في هذا الشأن. أيضا وصل الحال بهم إلي دعوة أوباما للتخلي عن سياساته المدللة للمسلمين وللدول الإسلامية.. هل فهمنا الآن ماذا يحدث في أمريكا؟ * مدير مكتب "روزاليوسف" فى واشنطن