منذ فترة قريبة وأثناء فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الأخيرة، برزت أوبرا القاهرة باستضافة الحدث الفني اللافت للنظر علي المستوي العالمي، وهو العرض التركي الراقص نيران الأناضول، الذي حضره خلال جولاته حول العالم أكثر من عشرة ملايين متفرج، ومنهم المتفرجون المصريون الذين اشتروا بطاقات الدخول غالية الثمن التي كانت أضعافاً مضاعفة لأسعار شباك تذاكر دار الأوبرا المصرية، ومع ذلك فقد كانت جميع الحفلات كاملة العدد، مما يؤكد ملاحظات مهمة كدنا أن ننساها حول تلقي الفنون الجميلة في مصر، وأول تلك الملاحظات أننا نمتلك ذلك النوع من الجهود الذي يبحث عن الفن الثقافي الجماهيري الممتع، ولاشك أن عرض نيران الأناضول يحقق تلك المعادلة الصعبة فهو عرض جماهيري ممتع بكل تلك الاستعراضات المتتالية التي تربطها فكرة متصلة ويرقصها راقصون علي مستوي راق من الموهبة والحرفية، وفي غياب تام لفكرتي البالية الكلاسيكي والرقص الحديث. فالعرض يعتمد علي خطوات الرقص الشعبي لمنطقة الأناضول بالاستناد إلي الأصول الحضارية الأثرية والتاريخية لذلك النوع من الرقص، فعلي الشاشة الدائرية البيضاء أعلي خشبة المسرح تري صورة أصيلة للشخوص علي جدران الآثار، للبشر من الحضارة الفينيقية أو البيزنطية ثم تتحول الأيقونة التاريخية الأثرية الحقيقية لمشهد ساحر من الرقص الحي بالملابس وأغطية الرأس الجميلة الثرية في فراغ مسرحي رائق لا تشغله غير ألوان الإضاءة المسرحية التي كثيرا ما تضيء الجمهور ليشارك بصنع إيقاع الرقص بدقات الأكف التي تكرر إيقاع الطبول والدفوف ذات الأصل المصري التي رحلت مع سليم الأول للأناضول، ليشارك الجمهور ليس بالمشاهدة فقط بل بالمشاركة ذات الطابع الاحتفالي، وقد كانت الطبول هي العلامة الأساسية في العرض إنها مجموعة الطبل الكبير ذاتها المنتشرة في كل أنحاء مصر بفرق الموسيقي الشعبية. إن عرض نيران الأناضول يؤكد أن كل هذا السحر والقيمة الجمالية الخالصة تقف خلفها فلسفة تستند لجذور ثقافية حضارية هكذا يصبح التراث بعيون تجريبية منبعا لإلهام فني جماهيري. فعرض نيران الأناضول لا يقدم التراث كما هو، بل يفجره ويعيد إنتاجه، وهي الفكرة التي غابت عن معظم فرق الرقص الشعبي في مصر، التي تراجع معظمها الآن، وهي أيضا الفكرة التي نجحت أكثر من مرة عندما اهتم المسرح المصري بالتجريب في التراث، لكنه لم يهتم أن يكون تفكيره الفني يطمح ناحية الجماهير العريضة. نيران الأناضول ذلك الدفء الإنساني والحركة الحرة بفلسفة عامة عميقة يمثل حقا تحفيزا ثقافيا لفناني المسرح والفنون الشعبية في مصر.