لا أنكر أهمية وافد المعرفة الجديد، شبكة الانترنت، المواقع الالكترونية التي تقدم نواحي العلم والمعرفة في شتي مجالات الحياة، ولا أدعي مقاطعتها، ولا أغض البصر عن أهميتها بعد أن دخلت في حياتنا وحجزت لها ركنا ثابتا فيها. ولا اتعجب من إقبال فئات عديدة من فئات مجتمعنا علي استخدامها والانتفاع بما فيها .. إنما كل الدهشة من إبداء ذلك الإعجاب غير الطبيعي، والتغني غير المنطقي بتلك الثورة التكنولوجية الرهيبة في عالم المعرفة وأثرها علي الكيان المطبوع سواء كان كتابًا أو جريدة أو مجلة.. وإذا كان مصدر ذلك «الوله» بشبكة الإنترنت هم فئة الشباب فليس في هذا الأمر دهشة أو تعجب،. أما إذا كان مصدره بعض المنتمين إلي عالم الصحافة والجريدة المطبوعة علي الورق، فإن ذلك هو المثير.. الغريب.. العجيب في الأمر.. فلقد استمعت وشاهدت وقرأت الكثير من التصريحات والأحاديث الإذاعية والتليفزيونية علي لسان البعض يعلنون فيه قرب انتهاء عهد الصحيفة المطبوعة خلال قليل من السنوات المقبلة الآتية بسرعة جدا حسب قولهم مستشهدين ببعض الصحف الغربية التي أغلقت أبوابها أو قلصت عمالتها لظروف مالية طارئة. والمدهش أن تلك التصريحات والأحاديث جاءت علي لسان من يفترض أنهم يشغلون مناصب قيادية أكاديمية وتنفيذية في عالم الصحافة، وظهر واضحا من كلماتهم، ونبرات أصواتهم، وتعبيرات وجوههم مدي اقتناعهم بقرب تلك النهاية الوشيكة، ليظهر كل منهم وكأنه من أبلغ بقرب الطوفان فلم يستمع إليه أحد من العالمين. فإذا كان القائد يعلن إلقاء سلاحه وعقد منديله الأبيض علي عصاه الخشبية يرفعها ليعلن استسلامه بهذه البساطة.. فما بال جند السلاح فاعلون بعد أن رأوا زعيمهم يقف رافعاً يديه ملقياً سلاحه داعياً إلي وأد تاريخ الكلمة المصرية الوطنية المطبوعة بكل تلك البساطة! تاريخ مصر في مجال الصحافة هو التاريخ الرائد في المنطقة العربية كلها، بدأ عندما أنشأ نابليون بونابرت أول مطبعة في مصر عام 1798 في مدينة الإسكندرية وكانت تحمل اسم «مطبعة جيش الشرق». وعندما انتقلت إلي القاهرة العاصمة تغير اسمها إلي «المطبعة الأهلية» ومن هذه المطبعة ظهرت أول جريدة في مصر باسم «كورييه دي ليجيبت» أو الجوانب المصرية، وعندما انتهت الحملة الفرنسية علي مصر بتحرير البلاد عادت المطبعة إلي بلادها ثم دخلتها ثانية مع محمد علي باشا الذي أنشأ «المطبعة الأميرية» في بولاق الموجودة حتي الآن في مكانها، ليبدأ معها تاريخ الصحافة المصرية الرائد بإصدار جريدة «الوقائع المصرية» ثم جريدة «الأهرام» وتتوالي بعدها الجرائد المصرية في الظهور. تاريخ صحفي مصري مشرف كان -وما زال- له الدور الأهم في الكفاح الوطني ضد غزو العسكر والجهل والطائفية، وكل ما واجهته مصر من عقبات أو مشاكل أو صعوبات العبور نحو العلم والمعرفة والثقافة والتنوير. أكثر من مائتي سنة من تاريخ الصحافة الوطني المشرف ينبئ «أنبياء» الصحافة الإلكترونية عن محوه من ذاكرة التاريخ المصري بقرب انتهاء عصر الصحافة الورقية، والإعجاب يتساقط بين مفردات كلماتهم، والوله يظهر واضحاً في عيونهم، لم يكلف واحد منهم نفسه بقراءة ذلك التاريخ ليحافظ علي إصداره الصحفي بخطة تطوير وتحديث له يواجه بها عصر الصحافة الإلكترونية «المغري» بمواقعه الجذابة السهلة الممتعة في السرد والعرض. مئات بل آلاف من المواقع الالكترونية التي لا تعرف لها أصلاً إلا فيما ندر تقدم المعلومات والاخبار التي لا تعرف لها توثيقاً ولا مصداقية إلا فيما ندر تعرض الصور الفوتوغرافية التي تتدخل برامج الكمبيوتر لتشكيلها وفق الهوي إلا فيما ندر تنشر تعليقات القراء الذين لا تعرف أن كان اسم صاحب أي منها حقيقياً أم مزيفاً -إلا فيما ندر تثير القضايا السياسية والدينية والأخلاقية وتطرحها علي الملأ وتنشر الآراء حولها دون وعي أو إدراك لعواقب الأمور وتداعياتها علي مصلحة الوطن من تناحر الآراء إلا فيما ندر تنشر الخبر والتعليق الذي لا يستند إلي أي حجة قانونية تدعمه وتدافع عن مصداقيته، فالأهم هو تزايد أعداد المترددين علي الموقع، وفي ذلك كل المصلحة والمنفعة. إنها دعوة الصحافة الالكترونية التي يبشر بها «أنبياء» لا كتاب لهم ولا حجة ولا برهان، أغرتهم تلك الصحافة حتي سقطوا في غرام «الشبكة» العنكبوتية فآمنوا بها وراحوا يساهمون في الدعوة لها ونسوا مهمتهم الأصلية في الحفاظ علي الصحيفة المطبوعة، وتناسوا تاريخاً رائداً من الصحافة الوطنية المصرية الصادقة المخلصة، تاريخ لم يستطيعوا قراءته. *رئيس التحرير مجلة ابطال اليوم الصادره عن مؤسسه اخبار اليوم