عصير الكتب للكاتب الكبير علاء الديب من الكتب النقدية النادرة التي مثل صدورها فرحا للقراء، وتحقيقًا لأمنيتهم في جمع المقالات التي امتدت علي مدار الأربعين سنة، وتابعت التغيرات التي طرأت علي الكتابة بمختلف اتجاهاتها، ومنذ بداية الكتاب - الصادر عن دار الشروق - يعي علاء الديب أن كل كتاب اختاره يمثل سؤالا ويحاول بالكتابة عنه أن يجد إجابة أو مشروع إجابة. يكتب رأيه في الكتاب في جمل موجزة قادرة علي أن تريك كيف قرأ العمل وما المكانة التي يضعه فيها. لا يمثل قصر المقال عائقا أمامه يمنعه من قول ما يريده بل التكثيف فيها بعدا عن مقدمات لا طائل منها وتكررت كثيرا في الدراسات الفضفاضة التي لا تعرف نعمة الحذف، والشعور الذي ينتابك أثناء قراءة تلك المقالات، إنه يقترب من العمل بتؤدة ويتلمس الطريق إليه، ولا يصدر أحكاما صارمة بل آراء يفضفض بها إلي القارئ كأنه يريد أن يتبادل معه حوارا حول الكتاب دون أن ينتهيا منه بسرعة. آراء الديب في الأعمال الإبداعية نموذج مهم لكيفية قراءة المبدع لتلك الأعمال، لا تشغله أي تصنيفات نقدية ولا يبحث عن المصطلح، بل يبحث عن الدقة في اختيار الكلمات التي تكشف ملامح قراءاته، وتكشف أن «إيده في النار» مثل مبدعي تلك الأعمال، ويشاركهم في مكابدة التحديات والأسئلة والطموحات التي يواجهونها في الكتابة، وربما هذا هو السبب في اعتزاز المبدعين بالمقالات التي كتبها عنهم علاء الديب ويرون أن سطورها القليلة كاشفة عما تمنوا أن يراه القارئ أو يعايشه في أعمالهم، لكن بقدر نبرته الهادئة التي اشتهر بها في تناول الأعمال، ستجد مواضع كثيرة في الكتاب تحتد فيها نبرته وتشتد سخريته عندما ينقد ما يفسد تلك العلاقة الخاصة مع الكتاب، وعندما يتحول التلقي إلي صخب أو زفة ويصير هناك إجماع علي رأي واحد كأنها إشاعة انتشرت والكل يصدقها دون التحقق منها أو التأمل فيها «هناك حساسية ما تصيبني أمام مثل هذا الترتيب المبالغ فيه والانتشار السريع، فليس في الفن موضة أو صرعة كما يقول الشوام، وليس في الأدب اكتشاف أو معجزة، وإطلاق مثل هذه الأوصاف والاستماع إليها يحول المجموعة القصصية أو العمل الأدبي إلي شريط كاسيت أو نوع جديد من المبيدات الحشرية». لا يحب علاء الديب استخدام كلمة جيل ويري أنه من الأفضل التعامل مع الكتاب علي أنهم تيارات يشمل كل منها كتابا من أجيال مختلفة لكن تجمعهم سمات ورهانات فنية مشتركة، ومن هذه الزاوية يعد بالنسبة لي علاء الديب امتدادا ليحيي حقي في كتاباته النقدية، فالكتابة النقدية لدي الاثنين سعي للاقتراب من الكتاب بحرية دون حدود وتصنيفات مدرسية ويؤمنان ب«أن الكاتب - لا عالم اللغة - هو الذي يثري كلام الناس ويلونه ويهبه ذوق العصر ودلالته» علي حد تعبير يحيي حقي، كما أنهما بارعان في صياغة المجازات التي توضح شعورهما بالكتاب وتكسب كتابتهما النقدية حيوية النص الإبداعي، ويفضان صيغة الحوار مع القارئ وحثه علي أن يخوض رحلة القراءة ومشاركتهما في الاستمتاع بها وعدم التسرع في اختزال عالمها، يكتب علاء الديب عن يحيي حقي «يكتب وكأنه يتنفس مرتاحا في مقعد مريح، لا تعمد ولا قصدية ولا اصطناع وإنما هم وتطويع للغة في التعبير عن المعني وظله وتردداته وترددات ظله حتي الأفق الأخير». ونستطيع قراءة الكلمات الأخيرة علي أنها توصيف لطريقة علاء الديب وما سعي إلي تحقيقه في عصير الكتب.