رجلا كبير السن، يجلس علي مقعد ممسكا بمشط صغير يمشط به شعره في يسر واهتمام بالغين، ولا تفارق ابتسامة الرضا عينيه، اقتربت منه وسألته: "لو سمحت فين مكتبة عم محمد جابر غريب"، ضحك وقال: "أؤمري" فتيقنت أنه الشخص المراد. هكذا هو "عم" محمد جابر القاص وصاحب إحدي مكتبات بيع الكتب بسورالسيدة زينب، الذي كان قد خرج لتوه من محنة مرض شديدة، قاومها كما يقول بالقراءة والكتابة والأمل، موضحا أن هذه الجلطة الدماغية لم تعقه لحظة عن ممارسة هوايته الوحيدة في القص. قال عن رحلة مرضه وعلاجه: أصابني المرض في لساني وقدمي ويدي، لكنه لم يستطع النيل من تفكيري وعقائدي ومبادئي وأملي في الاستمرار بالكتابة والقراءة، وإكمال مجموعتي القصصية السادسة، حتي إقامتي في المنزل لمدة شهرين ونصف الشهر، التي ضقت ذرعا بها، لم تؤثر علي جدول قراءاتي وكتابتي للمقالات الأسبوعية التي داومت عليها لعدد من الصحف والمجلات التي أكتب بها منذ أكثر من عشر سنوات، وقد حرصت علي ألا أكتب فقط كنوع من تسويد الصفحات أو بحكم ممارسة العادة وإنما كنت أمعن التفكير فيما أكتب لأن الكتابة والقراءة هما المقاومة الحقيقية للمرض. ثم سكت برهة وأردف: لقد بدأت القراءة في سن صغيرة جدا، بعد وفاة والدتي حيث توفيت وأنا دون العاشرة، وبحكم عزلتي وإحساسي باليتم مارست عادة التأمل التي لم تفارقني منذ وقتها وكان الوحدة والفراغ هما رفيقي الحياة، فلذت بالرسم والكاريكاتير وكتابة الشعر ثم كتابة القصص القصيرة، حيث استهوتني ولم تفارقني هي أيضا حتي الآن. وفي هذه السن أيضا مارست التجارة في الكتب، وهي مهنة وفرت لي كل ما احتجته حينها، الكتب للقراءة والمال لمواصلة الحياة، وكذلك العلاقات الطيبة بمرور الوقت، التي أصبحت لي إرثا مهما، فصادقت أدباء مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد والروائي بهاء طاهر وغيرهم من جيل الستينيات، ولا أنسي أن من قدمني كقاص في بداياتي هو القاص الرائع يوسف إدريس، عندما علق علي إحدي قصصي التي نشرت في مجلة حواء قائلا: "إنها تحفة بكل المقاييس"، عندها كنت قد بدأت أكتب مجموعتي القصصية الأولي "سي السيد الديك"، التي تناولت مفهوم فكرة التسلط لدي البعض، وقدمت كعمل درامي في التليفزيون، وجاءت بعدها مجموعة "اغتيال أبو المحاسن"، وقدمت إذاعيا أيضا. ثم كتبت مجموعتي "عذابات السيدة الجميلة"، التي جاءت فكرتها من وحي مرض زوجتي الذي دام معها لأكثر من عشر سنوات متتالية دون رحمة، وقمت بعمل إسقاط من خلالها علي حرب الخليج، وما ينتاب العالم العربي من أمراض عضال، وتنبأت فيها بحرب العراق، تلتها مجموعة "أغنية لزفاف جديد" عن حرب أكتوبر وأحداثها، حيث إنني كنت أحد الذين عاصروها وشاركوا فيها، وقد طبعتها سلسلة "إشراقات" الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، ثم كانت مجموعتي الخامسة "إشراقات الحب والغضب"، وأخيرا تحت الطبع الآن مجموعة "أزرار البلوزة وأشياء أخري"، وأنا أحب العناوين الجذابة الطويلة تشبها بعناوين أعمال الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس. وبعد نظرة خاطفة لمكتبته قال هنا قضيت عمرا، لكن المهنة لا تخلو من متاعب دائما، منها الأمطار والأتربة التي قد تتلف الكتب ثروتي ومصدر قوت وعاد «عم» جابر للحديث عن تجربة مرضه قائلا: تجربة المرض حقا تجربة جميلة، وما زادها جمالا انني ولدت ولدي ميول للزهد في الحياة فلم تكن لي متطلبات كثيرة، فزادني هذا إمعانا في التأمل ومحاولة إيجاد تفسيرات لكل شيء، وهذا ما أتاحه لي المرض أيضا فهو نوع من التطهير الإلهي للإنسان. وتطرق جابر غريب إلي أهم الكتب التي وقعت في يده منذ أن عمل في هذه المهنة فقال هي دائما كتب التراث بطبعاتها القديمة البيروتية الفاخرة ككتب ابن عربي وابن الفارض وكتب الجاحظ والإمام السيوطي والإمام الترمذي وكبار المتصوفة وكان الطلب عليها وقتذاك كثيراً ولكن الآن وبسبب تدني القراءة الراجع للحالة الاقتصادية وارتفاع الأسعار لم يعد الأمر كما كان، أما من يسأل عن مثل هذه الكتب الآن ويقبل بالفعل علي القراءة فهم من في مثل سني أو أصغر بقليل، أجدهم يبحثون عن الكتب في كل المجالات كعلم النفس والأدب والتاريخ والفلسفة وكتب التراث وغيرها وهم زبائني الحقيقيون، وهم من أجدهم أول المشترين عندما يسمعون أنني حصلت علي مكتبة جديدة، لأحد المثقفين الذين وافتهم المنية حديثا أو عندما آتي بالكتب من تجار الموبيليا. استفاض عم محمد في الحديث حينما جئنا علي ذكر الروايات والقصص وارتباط الزبائن بهذين النوعين من الفن أكثر من غيرهما فقال: أنا غير موافق علي مقولة أننا في زمن الرواية، فالحقيقة أن معظم زبائني يسألونني عن القصص أكثر من الروايات وأكثر من الدواوين الشعرية، كما أني كتبت رأيي هذا في عدد من المقالات، ردا علي مقالات الدكتور جابر عصفور بهذا الشأن. كان من المحتمل أن يكون هذا هو الحال سالفا في الستينيات وما قبلها ولكن الآن القصة القصيرة هي سيدة الآداب فلم يعد الوقت وطبيعة العصر تتسع لقراءة رواية حجمها ألف صفحة، وأكد أقوالي هذا مؤتمر القصة القصيرة الذي أقيم العام الماضي، وقد دعيت فيه لأحاضر وأدلي برأيي علي المائدة المستديرة مع الدكتور عبدالحميد شيحة، وبالفعل أثبت هذا المؤتمر نجاحه بعد أن جذب كل الحكائين والقصاصين من مختلف البلاد.