العرب ملوك الكلام.. المعلقات والشعر، الفخر والهجاء، والحاكم يجزل العطاء للشاعر الذي يمدحه أو يهجو غريمه.. صرة أو صرر من الدنانير وربما مع قصر وجارية، والقافية تحكم.. حتي إن شاعرنا (غالبا الأخ المتنبي) يقول: أنام ملء جفوني عن شواردها.. ويسهر الخلق جراها ويختصم (حاجة كده). يعني المذكور ينام بدري تاركا الشعب ساهرا في خلاف وشجار وخصام وقلق، بعيدا عن الإنترنت (الشبكة العالمية أو العنقودية)، والفضائيات والريسيفر (المستقبل.. بكسر الباء) وهي أمور لم تكن قد اخترعت في حينه، وتستمر المشاحنات مع مسابقات الكلام وسوق عكاظ (ده غير سوق التوفيقية في القاهرة أو راتب في الإسكندرية أو الجبان في طنطا) والجوائز مضمونة وليس بطريقة اتصل علي صفرين تسعة، والشعر مثل النثر بلا نهاية، والكلام ليس عليه جمرك حسبما يردد أبناء بورسعيد، حيث في الفخر يقول صاحبنا: «أنا الذي أسمعت كلماتي من به صمم»، يعني لا داعي لدراسة أنف وأذن وصخرة ولا للطب عموما.. شعر المحروس فيه علاج الصمم.. ويقول آخر ما معناه إن أسود الصحاري ترتعش لمجرد سماع اسم أحدنا، كما أن الأعداء يخرون سجدا عند رؤيتنا! هكذا.. وفي المديح يردد الشاعر العربي: أنت قمر والملوك كواكب ويكمل عند ظهورك تختفي كل النجوم والكواكب! ويقول الآخر: نورك تخجل الشمس منه، مثلما يختفي القمر من جمال طلعتك (كله بيختفي! بس كده)! هذا وفي الهجاء.. حدث ولا حرج.. الشتيمة تصل للأعراض بعد العاهات، والسخرية من ملامح الوجه مع التندر علي معني ومدلول اسم المهجو في أحواله، وبعد إهالة التراب علي جدود جدوده، رجالا وحريما.. وكله بثمنه.. والحساب يجمع. ولا عزاء لما يسمي الشهامة العربية والفروسية الصحراوية.. إلخ يجري ذلك في فاصل من مبالغة شاذة ومضحكة لدرجة البكاء.. طالت كل شيء في حياة أبناء العروبة وتوارثتها الأجيال.. وفقا لقوانين الطبيعة وعلوم الوراثة وجينات لغة الضاد. المبدأ والمنطق يقولان: فكر أولا ثم فكر ثانيا وبعدها تكلم.. مع الإنجاز والعمل المنتج في كل حين، لكن الوضع تبعنا يختلف نوعا وكما.. تكلم أولا وثانيا وأخيرا.. ثم فكر بعد حين.. ولا يهم الإنتاج والمحصلة. انسحب ذلك بالطبع علي طريقة التفكير.. فنحن أبناء العروبة ليس لدينا وسط.. أبيض ساطع أو أسود هباب، إما فخر أو هجاء، مدح أو ذم وبالصوت العالي والفكر المنخفض والمنطق المنعدم. يجري ذلك علي مستوي الفرد والدولة والأمة.. المعارك كلها كلام.. وتحقيق المراد يتم بالخطب، والتخطيط بالبركة، والمهم الخطابة (من ابتدائي كان لدينا في المدرسة فريق الخطابة).. وتستدعي الذاكرة خطبة محافظ سابق للإسكندرية قال فيها: «اللي عملناه ده مش إنجاز.. ده فعلا إعجاز» لاحظ السجع أو الجناس أو الطباق (مش عارف) اللي في إنجاز وإعجاز.. (ونعم البلاغة).. وكان ده كله بمناسبة افتتاح حديقة أقل من العادية. هكذا.. إعجاز عربي.. لم يقم بمثله بيل جيتس، ولا مندل، ولا نوبل، ولا أوبنهايمر، دعك من الغلابة الذين اكتشفوا علاجات للسل الرئوي أو الطاعون أو غيرها من أمراض، ولا ممن أسعدوا البشرية في مجالات الموسيقي والمسرح وغيرهما من فنون، ولا ممن اخترعوا الألعاب الرياضية والذهنية، ولا ممن ابتكروا الأجهزة والمعدات من أول العجلة وحتي الموبايل.. هذا ونحن مستقبلون مستهلكون فقط، متكلمون ليس إلا.. حسبما يردد الأخ جورج وهبة. والنمط العربي السائد.. دائم سرمدي.. لا يتغير.. حيث لا تخطيط هناك ولا يتوقعون، بينما الآخر يرسم مستقبله لمائة سنة مقدما.. والنماذج كثيرة.. وأقربها أبناء شارون وبن جوريون وغيرهم كثيرون من البرازيل وحتي اليابان، ومن الهند وحتي ماليزيا.. وأوروبا تتحد ونحن نتفكك (راجع العراق، اليمن، الصومال، السودان، المغرب). وهم يتقدمون أبحاثا وتكنولوجيا ونحن كما تعلمون.. دع سمائي فسمائي محرقة واحذر الأرض فأرضي صاعقة (حاجة زي كده.. وعلي رأي الأخ عبدالله كمال: أشياء من هذا القبيل).. صح يا رجال؟! ايوه صح! لذلك -وفي غياب المنطق والتفكير الواقعي والسليم- نتصرف بسذاجة أحيانا.. وبتهور غالبا.. في صورة تشنج لحظي.. وهياج عصبي لا يدوم (راجع معي: الطفل محمد الدرة، مدرسة بحر البقر، مروة الشربيني، وتابع حاليا: مصرع المطربة اللبنانية، وتوقيع لاعب الكرة لأكثر من ناد، وتذكر قبلا: الوحدة العربية، الوحدة الفيدرالية، وحدة الصف، الاتحاد الكونفيدرالي (ده غير الاتحاد السكندري). نحن إذن نرث التسرع والتطرف، التسرع في الحكم علي الأمور والتطرف الذي وصل لحد العقيدة، دون إعمال العقل أو سيادة الوعي أو حكم المنطق والتجربة والتاريخ، في صورة شطط ومبالغة لا حد لهما لذلك فالعدو أو الغريم أو المنافس يكسب ونحن نخسر.. ليس لقوته وإنما لضعفنا.. الفكري بالطبع، وكأننا لا نتعلم وكأن لدينا مناعة ضد الاستفادة من الخطأ وأخذ العبرة من التجربة. نحن إذن نتكلم كثيرا.. ونعمل قليلا.. نناقش طويلا ونفكر نادرا.. نقرر في لحظة انفعال ثم نلغي القرار في لحظة انفعال أيضا.. ونخطئ في كلا الحالتين.. نحن إذن نتشنج: إما أبيض أو أسود إما ملاك أو شيطان.. حيث لا لون آخر.. ولا وجود لإنسان، والسيف والقلم والقرطاس تعرفني بس كده.. ودمتم.