في إحدى نوبات صحوي قابلت عمنا الكبير أحمد بن الحسين الكندي فأخذته بالحضن، وسألته عن أخبار الرَّبع النشامى، فأنشدني والفشر يسيل من عطفيه أبيات عمرو بن كلثوم: وأنّا المنعمون إذا قدرنا ** وأنّا المهلكون إذا أتينا وأنا الحاكمون بما أردنا ** وأنا النازلون بحيث شينا ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ** ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا ملأنا البر حتى ضاق عنا ** كذاك البحر نملؤه سفينًا إذا بلغ الرضيع لنا فطامًا ** تخر له الجبابر ساجدينا لنا الدنيا وما أمسى علينا ** ونبطش حين نبطش قادرينا فما كان مني إلا أن هززت رأسي ومضيت لا ألوي على شيء، فوقعت عيني على قصاصة من مجلة أنيقة متكلفة الشيء الفلاني، وجدتها مهتمة جدَّا بأمر المغنية الشابة التي كانت تحمل بضع جزرات، تطعم بها خيول مزرعة، كانت تقوم بتصوير لقطات الفيديوكليب فيها، وحشرت المحروسة جزرة في جيب بنطالها الخلفي، وبقي نصفها بارزًا إلى أعلى، وبينما كانت تتراقص على إيقاع الخبط والرزع - المسمى موسيقى - بين الخيول، اجتذبت الجزرة الناتئة انتباه حصان صائع جائع، فاقترب ابو عين زايغة من الخلف وحاول التهامها، لكن يبدو أنه كان (حمار) البعيد، أو كان حصان خباص، فنهش مع الجزرة قطعة من مؤخرة المغنية المايصة، التي تلقت الإسعافات الطبية اللازمة، ثم عادت إلى منزلها، بعد أن قطعت على نفسها عهداً بألا تتعامل مع أي حصان عينه زايغة بعد كدا.. أصابتني طرافة الخبر بشبح ابتسامة، لكني مضيت في طريقي، وأنا أستعرض في خيالي أبياتًا للأخ أبي الطيب المتنبئ، وهو يهتف في فخار وأريحية عربية تلامس الثريا: إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ.. فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ... كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ.. وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيمِ وكلّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني.. ولا مِثلَ الشّجاعَةِ في الحَكيمِ وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحًا... وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ ولكِنْ تأخُذُ الآذانُ مِنْهُ... على قَدَرِ القَرائحِ والعُلُومِ.. ضحكت من قنعرة أخينا أبي الطيب، وأنا أسمع عن أغلى لاعب عربي، الذي ضمه فريق معرفش إيه إلى صفوفه مقابل مبلغ 10 ملايين دولار بس، في بلد نفطي فقير، وعن شقة الرقاصة الخباصة أم كم عشرة مليون أهْيف، ووصلتها التي تتكلف في النص ساعة كم عشرين ألف دولار – غير النقوط - في زمن تموت فيه الأسد في الغابات جوعًا، ولحم الضأن تأكله الكلاب! فعدت إليه بسرعة، وأنا أتميز من الغيظ، ثم صرخت فيه وأنا محروق الدم: إيه يابو الطيب.. فوق بقى.. انت مش داري باللي بيجري؟ اسمع مني: سقطتْ آخرُ جدرانِ الحياءْ/ وفرحنا.. ورقصنا/ وتباركنا بتوقيعِ سلامِ الجبناءْ لم يعد يرعبنا شيءٌ/ ولا يخجلنا شيءٌ/ فقد يبستْ فينا عروقُ الكبرياءْ سقطتْ للمرةِ الخمسينِ عذريّتنا.. دونَ أن نهتزَّ أو نصرخَ أو يرعبنا مرأى الدماءْ ودخلنا في زمانِ الهرولهْ ووقفنا بالطوابيرِ، كأغنامٍ أمامَ المقصلهْ وركضنا.. ولهثنا.. وتسابقنا لتقبيلِ حذاءِ القتلهْ.. نظر إلي الأخ أبو الطيب شذرًا، فتجاهلت نظرته، وهتفت: جوَّعوا أطفالنا عشرينَ عامًا/ ورمَوا في آخرِ الصومِ إلينا.. بصلهْ - تأفف أبو الطيب قائلاً: يا للعار/ يا حيف عليكم، انت بتتكلم جد؟ - فقلت بمرارة: خليني أكمل يا راجل: سقطتْ غرناطةٌ - للمرّةِ الخمسينَ – من أيدي العربْ سقطَ التاريخُ من أيدي العربْ سقطتْ أعمدةُ الروحِ، وأفخاذُ القبيلهْ سقطتْ كلُّ مواويلِ البطولهْ سقطتْ إشبيليهْ/ سقطتْ أنطاكيهْ سقطتْ حطّينُ من غيرِ قتالٍ/ سقطتْ عموريَهْ سقطتْ مريمُ في أيدي الميليشياتِ؛ فما من رجلٍ ينقذُ الرمزَ السماويَّ ولا ثمَّ الرجولهْ.. سألني: والنسوان؟ فضحتونا واللا إيه؟ قلت وقد رسمت ابتسامة ساخرة: سقطتْ آخرُ محظيّاتنا في يدِ الرومِ، فعماذا ندافع؟ لم يعدْ في القصرِ جاريةٌ واحدةٌ تصنعُ القهوةَ.. والجنسَ.. فعماذا ندافعْ؟ - والبلاد.. والحضارة يا غجر؟ لم يعدْ في يدنا أندلسٌ واحدةٌ نملكها: سرقوا الأبوابَ، والحيطانَ، والزوجاتِ، والأولادَ، والزيتونَ، والزيتَ، وأحجارَ الشوارعْ.. سرقوا ذاكرةَ الليمون والمشمشِ والنعناعِ منّا.. وقناديلَ الجوامعْ لم يعدْ ثمةَ أطلالٌ لكي نبكي عليها كيفَ تبكي أمةٌ/ أخذوا منها المدامعْ؟ أسكتوا الشارعَ.. واغتالوا جميعَ الأسئلهْ/ وجميعَ السائلينْ... - وأم أربع وأربعين؟ العقربة.. أخبارها إيه؟ تزوّجنا بلا حبٍّ من الأنثى التي ذاتَ يومٍ أكلتْ أولادنا، مضغتْ أكبادنا! وأخذناها إلى شهرِ العسلْ! وسكِرنا ورقصنا/ واستعَدنا كلَّ ما نحفظُ من شعرِ الغزلْ.. لم يكُن في العرسِ رقصٌ عربيٌّ/ أو طعامٌ عربيٌّ/ أو غناءٌ عربيٌّ/ أو حياءٌ عربيٌّ! فلقد غابَ عن الزفّةِ أولادُ البلدْ.. - وفين روبي ولوسي ومروة؟ - مروة قاعدة تقول حاحا/ والتانية بتقول باحبك آه/ والثالثة بتقول أنا ما فيي، والرابعة بوسة ونغمض وياللا/ والصغيرين بيحبوا الحمير، وننوسة عايزة تخلي كل بناتنا يقلعوا ملط، ويمشوا في جيوبهم حبوب منع حمل/ وكل مستنيرة من المستنيرات قاعدة تسابق أخواتها في تغطية أقل قدر ممكن من عورتها، باسم التنوير.. - الله ينور عليكم.. سمعني سمعني.. اشجيني.. - أبدًا.. في المهرجان السينمائي تم تكريم الممثلة اللي انقبض عليها في قضية دعارة هي وشلة معاها، كما تم سب الدين في عشرين فيلمًا بإنتاج عربي، وبإشراف وزارات السقافة، وحصل تسابق على عرض اللحم الرخيص مجانًا على الجمهور الغلبان اللي نفسه في لحسة! - الله لا يوفقكم.. وأخبار الوطن إيه؟ - الوطن شبع أغاني: حنحارب حنحارب/ كل الناس هتحارب الحرب الحرب الحرب.. ولا غير الحرب بديل والضرب الضرب الضرب.. على ناصية كل ذليل يا خاين الاشتراكية يا عديم المسؤولية/ هنزمرك كده اهو.. يا سلام يا سلام سلم - وزمّرتم يا غجر؟ - زمرنا.. وهتفنا ضد الإسلام تحت غطاء الإرهاب، وصار عندنا مواقع تشتم ربنا سبحانه وتعالى جهرة، ويحميها النظام، وعبدة شيطان من أولاد الحرام! - انتم فالحين اللا في قلة الأدب؟ والتعليم يا حَوش؟ - تعليم إيه يا با.. العلم لا يكيل بالبدنجان.. لعيب الكورة أحسن من أستاذ الجامعة.. والرقاصة أشرف من بنت الشاطئ.. اتكل على الله واشتغل رقاصة؟ - مجنون انت؟ أنا يا متخلف اشتغل رقاصة؟ مش عارف أنا مين؟ - يعني مين يا خي؟ رامبو واللا سوبرمان؟ واللا أنكل سامّ!؟ فرد بشموخ وتعالٍ طيبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها... ويسهر الخلق جراها ويختصمُ إذا نظرت نيوب الليث بارزة.. فلا تظنن أن الليث مبتسم ومرهف سرت بين الجحفلين به.. حتى ضربت وموج الموت يلتطم فالخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم! - يا عم روح دانتا مياس.. بلاش نفخة كدابة.. تعال أقول حاجة.. سمعت عن حاحا وتفاحة؟ واللا حاحا والجدي راح؟ واللا كَمننا؟ - لأ.. سمعت عن حاحا بتاع نجم.. أسمعها لك؟ ضحكت هاتفًا في أبي الطيب: أنت يا متنبي؟ يخرب عقلك، وانت مالك ومال نجم؟ دانتا مش سهل من يومك! قال: بس عجبتني قصيدته حاحا.. أسمعها لك؟ قلت له: سمعنا يا ريس حنتيرة: فاعتدل وأنشد: ناح النواح والنواحه/ على بقرة حاحا النطاحه/ والبقره حلوب/ حاحا/ تحلب قنطار/ حاحا/ لكن مسلوب/ حاحا/ من أهل الدار/ حاحا/ والدار بصحاب/ حاحا/ وحداشر باب/ حاحا/ غير السراديب/ حاحا/ وجحور الديب/ حاحا/ وبيبان الدار/ حاحا/ واقفين زنهار/ حاحا/ وف يوم معلوم/ حاحا/ عملوها الروم/ حاحا/ زقوا الترباس/ حاحا/ هربوا الحراس/ حاحا/ دخلوا الخواجات/ حاحا/ شفطوا اللبنات/ حاحا/ والبقرة تنادي/ حاحا/ وتقول يا ولادي/ حاحا/ وولاد الشوم/ حاحا/ رايحين في النوم/ حاحا/ البقرة انقهرت/ حاحا/ في القهر انصهرت/ حاحا/ وقعت في البير/ حاحا/ سألوا النواطير/ حاحا/ طب وقعت ليه/ حاحا/ وقعت م الخوف/ حاحا/ والخوف ييجي ليه/ حاحا/ من عدم الشوف/ حاحا/ وقعت م الجوع ومن الراحه/ البقرة السمرا النطاحه/ ناحت مواويل النواحه/ على حاحا/ وعلى بقرة حاحا! صرخت في الأخ المتحمس، وقلت له: حاحا إيه وبقرة إيه؟ أنت شفت روتانا؟ لو شفت روتانا مش هاتقدر تغمض عينيك؟ - ليه.. كلها قيم وأخلاق وتربية؟ بتدعوكم لنصرة إخوانكم والوقوف معاهم؟ وبتحاول تستر بلاويكم؟ واللا شغالة على هشك بشك زي الباقي، ومدعومة بأموال البترول زي أخواتها؟ على كل حال.. أنا قريت بيتين شعر للمقنع الكندي.. وعاجبني الكلام اللي فيهم.. أسمعهم لك؟ - تاني؟ يا عم حل عني.. واللا أقول لك؟ قل وأمري لله.. رفع المتنبي يديه وأخذ يهتف: يعاتبني في الدَّين قومي وإنما.. ديونيَ في أشياء تُكسبهم حمداً أسدّ به ما قد أخلوا وضيعوا.. ثغور حقوقٍ ما أطاقوا لها سدا وإن الذي بيني وبين بني أبي.. وبين بني عمي لمختلف جدا فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم.. وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم.. وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ.. وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا لهم جُل مالي إن تتابع لي غنى.. وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا على أن قومي ما ترى عين ناظرٍ.. كشيِبهم شيبًا ولا مُردهم مرداً بفضل وأحلام وجود وسؤدد وقومي ربيع في الزمان إذا اشتدا تأففت وأنا أقول ضجرًا.. شيب إيه ومُرد إيه؟ احنا في زمن دبّر حالك/ زمن ياللا نفسي/ زمن أنا ومن بعدي الطوفان/ زمن يا روح ما بعدك روح/ زمن إن طلت حاجة اهبشها؟ - يعني ما حدش بيساعد حد؟ مافيش نصرة ولا جوار؟ - جوار؟ جوار إيه؟ انت عايش فين يا بو الطيب؟ مش انت مت وخلاص؟ إيه اللي صحاك تاني؟ يا عم اتخمد.. واللا أقول لك: تعالى شوف بعينك يا ناصح.. فتحت له قناة فضائية عربية على مشاهد من مجزرة قانا.. وقصف بغداد.. وأبو غريب، وتفجيرات الفلوجة.. ودك جنين وغزة وخان يونس، وهتك سوات.. ثم بشيء من الخبث تعمدت أن أقلب القنوات بعدها على روتانا ومزيكا وميلودي وإل بي سي وإيه آر تي.. ليرى قلة الحيا والبذاءة العلنية، والبجاحة المتلفعة بالثقافة، فأخذ يقلب بصره بين القنوات، وقد جحظت عيناه، وامتُقع وجهه، وتشنجت ملامحه.. وفجأة أمسك ببلغة كانت على الأرض، وركض خلفي وهو يهتف: آه يا ولاد.. ضيعتوا الأولى والتالية يا ولاد ال......