لا يمكن أن يطوي الكلام عن غازي القصيبي الشاعر والسفير والوزير السعودي, من غير الإشارة الي أشهر قصيدة أبدعها, وأحدثت صدي واسعا في بلاده أولا وفي العالم العربي ثانيا, بعد أن تصدي لشرح القصيدة وتفسيرها كثير من الأدباء والنقاد, وبينهم طفيليون وجدوا الفرصة سانحة للدس علي الشاعر والوشاية به, بعد أن ضاقت صدورهم بالمكانة الرفيعة التي تبوأها في العمل الدبلوماسي والوزاري, وبعد أن رأوه موضع ثقة من بأيديهم صنع القرار. وقد أدعي بعض الخبثاء أن القصيدة التي صاغها القصيبي علي لسان المتنبي, يعاتب سيف الدولة أمير دولة حلب ويذكره بما كان بين الشاعر والأمير من مودة خالصة, وعشر صافية علي مدار تسع سنوات, قبل أن ينجح الوشاة في إحداث الوقيعة بينهما, لدرجة أن الأمير سكت علي إهانة شاعره الأكبر في بلاطه وبين جلسائة, دون أن يكترث بالدفاع عنه والذود عن كرامته ومنزلته, بما يستحقه المتنبي من رفعة وتكريم, وبخاصة أن الذين يهاجمونه هم من الشعارير الذين لا يرقون الي أفق إبداعه وشاعريته, يقول الخبثاء إن القصيبي أراد أن يقرأ الناس القصيدة فيظنوا أنها تصوير لموقف قديم احتفظت به كتب التراث العربي, أما الحقيقة التي يلمحون اليها ويريدون لها أن تتكشف فهي أن الشاعر قد واجه موقفا مشابها لما واجهه أبو الطيب من قبل, فصنع هذا القناع الفني حتي يخفي حقيقة ما حدث, وحتي لا يجلب عليه المزيد من غضب من يتجه اليه بالقصيدة, معاتبا ومذكرا. في البيت الأول من قصيدته يقول القصيبي: بيني وبينك ألف واش ينعب فعلام أسهب في الغناء وأطنب ثم يقول في القصيدة التي سماها رسالة المتنبي الأخيرة الي سيف الدولة: صوتي يضيع, ولا تحس برجعه فعلام أسهب في الغناء وأطنب وأراك ما بين الجموع,فلا أري تلك البشاشة في الملامح تعشب خدعوا, فأعجبك الخداع, ولم تكن من قيل بالزيف المعطر تعجب حتي إذا وصلنا الي المقطع الأخير من القصيدة, وجدنا أبياتا تحتمل قراءات وتأويلات شتي, ومن هنا كان اهتمام الجمهور الأدبي بالقصيدة وإشاعتها بين الناس يقول المتنبي: أزف الفراق فهل أودع صامتا أم أنت مصغ للعتاب فأعتب يا سيدي والظلم غير محبب أما وقد أرضاك فهو محب وبين البيت الأخير وبيت المتنبي الذي هو أصل له علاقة وثقي, تسمح للنقاد بالحديث طويلا عن التناص: إن كان سركمو ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمو ألم ثم يقو ل القصيبي ستقال فيك قصائد مأجورة فالمادحون الجائعون تأهبوا دعوي الوداد تجول فوق شفاههم أما القلوب فجال فيها أشعب لا يستوي قلم يباع ويشتري ويراعه بدم المحابر تكتب أنا شاعر الدنيا تبطن ظهرها شعري, يشرق عبرها ويغرب أنا شاعر الأفلاك, كل كليمة مني علي شفق الخلود تلهب! ففي هذه الأبيات الأخيرة للقصيبي استشراف لما عبر عنه المتنبي في مواضع عديدة من شعره, وهو يضع نفسه وشعره فوق الآخرين وشعرهم, عندما يقول: أنا الذي نظر الأعمي الي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم وعندما يقول: وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا فسار به من لا يسير مشمرا وغني به من لا يغني مغردا أجزني اذا أنشدت شعرا, فإنما بشعري أتاك المادحون مرددا ودع كل صوت غير صوتي, فإنني أن الصائح المحكي والآخر الصدي فهل تقمص الشاعر المعاصر روح الشاعر القديم, واعتزازه وكبرياءه, عندما بوغت بطعنة أميره وصديقه سيف الدولة الحمداني, في موقف مشابه وواقعة مماثلة تعرض لها, أم أنها كانت لحظة بوح شعرية استعاد فيها القصيبي صفحة من شعر شاعر العربية الأكبر: المتنبي؟ الإجابة الأكيدة لا يملكها إلا القصيبي!