أتيح لي أن التقي به مرة واحدة, وأن نتبادل حوارا من حول الشعر: حاضره ومستقبله, والقلق الذي يعيشه كل غيور علي الشعر العربي بعد أنهيار تعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات, والانقطاع القائم بين أجيال الشعراء المتتابعة وموروثهم الشعري, واتفقنا علي أنه لاتجديد في الشعر, لمن لم يسوعب جماليات الشعر العربي علي مدار تاريخه الطويل. كان اللقاء في المنامة عاصمة البحرين, أما المناسبة فكانت أمسية شعرية أقامتها لي وزارة الثقافة هناك, وكان يقدمها بطريقته الرشيقة وحسه المرح الشاعر البحريني عبد الرحمن رفيع, وفي مقدمة حضور الأمسية كان غازي القصيبي الشاعر والوزير والسفير وقبل ذلك كله الإنسان الجميل, المتوهج بالمشاعر الحارة, والحس الحميم والثقافة الواسعة, وعرفت ليلتها أن القصيبي ورفيع صديقا عمر وزميلا دراسة جمعتهما في البحرين ومصر, وفي القاهرة وعنها كتب القصيبي روايته الشهيرة شقة الحرية وصور فيها حياة الصديقين المشتركة, والمنطلقة بلا حدود, وقد تحولت الرواية الي مسلسل تليفزيوني بعد ذلك بسنوات. وظللت زمنا أحار في نسبة غازي القصيبي, وهل هو بحريني أم سعودي؟ وانتهي بي الأمر إلي اعتباره ممثلا للبلدين معا, ثقافة وابداعا وسئولية ومشاركة, بالرغم من أن عمله الدبلوماسي والسياسي سفيرا ووزيرا ارتبط بالسعودية, لكنه لم يلغ صلاته الحميمة وجذوره في البحرين. وعدت من المنامة بعد الأمسية الشعرية التي ماتزال أصداؤها في نفسي بعد انقضاء أكثر من عشرين عاما ومعي نسخة من الأعمال الشعرية الكاملة للقصيبي في طبعتها الثانية الصادرة عام1987, هدية من الشاعر, وتدشينا لصداقة استنرت طيلة هذه السنوات, وهي صداقة ازدادت عمقا, عندما اكتشف كل منا أنه أب لأبنة كبري هي يارا وقادتني قراءة مجموعاته الكاملة في دواوينه: أشعار من جزائر اللؤلؤ, وقطرات من ظمأ, ومعركة بلا راية, وأبيات غزل, وأنت الرياض, والحمي, والعودة الي الأماكن القديمة, إلي اكتشاف عالمه الشعري المترامي الأطراف, الذي وسعت من فضاءاته أسفاره وإقامته الطويلة بحكم وظائفه في بلاد مختلفة, وخبراته الحياتية والإنسانية التي أكسبته حسا عروبيا, ونفسا عميق الانتماء, ووجودا شديد الحساسية والتفاعل مع أحداث عصره, وشكاواه من أقنعة الدبلوماسية التي تختفي وراءها الحقائق, ويحجب الصدق, ويتحول ممثلو الدول الي ممثلين من طراز رفيع علي مسرح مزدحم بكل فنون الاغواء والبطش والتهديد والمراقبة والاحتجاج, كان هو ضحية لأحد مواقفها, حين نشر وهو سفير للسعودية في لندن قصيدة في استشهاد فدائية فلسطينية, وجدت فيها إسرائيل ومناصروها فرصة لحملة ضاربة تعرض لها السفير الذي خرج علي العرف الدبلوماسي حين آثر الخضوع لوجدانه النقي والاستجابة لهتفات نفسه المختنقة في إطار مشهد عربي يتهاوي ويتداعي. وعاد السفير الشاعر إلي وطنه. وعلي رأسه تاج العروبة التي ماتزال تبحث عن أمثاله من رموز الوطنية والشرف. وفي قصائد غازي القصيبي التي امتد فيها نفسه الشعري وفي مقطوعاته القصيرة المكثفة, المعتصرة لخلاصة الموقف والخبرة, نري قدرة القصيبي علي الابداع الشعري بلغة شديدة العذوبة والصفاء, وقدرة فذة علي التصوير والتجسيد, واحتشاد مدهش لقصيدته بكل مايمتلك من حس مرهف ووجدان خصب, ونفاذ رؤبة, وأعصاب عارية لاتطيق عارا أو مذلة, ولاترضي بالدونية والهوان, للإنسان العربي, وللأمة بكاملها. هل تأذن لي روحه المحلقة في فضاءات الوطن, أن أهديها قصيدته عن موت الشاعر, وكيف تكون الفجيعة فيه؟ يقول غازي: مر بالكون غريبا ومضي يدفن في المجهول أياما قصيرة مغرقا في لجة الموت أمانيه الكبيرة فإذا ما جمع الليل الندامي وسري في الأفق لحن لم يداعب أذنيه وإذا ما انتظر الصحب علي شوق لقاءه وأطل الفجر مشدوها كمن ينعي حبيبا أخبريهم أنه مات غريبا مات في الظلمة لم يشعر به حتي المساء فكان الشوق لم يورق دعاء في جفونه وكأن الليل لم يثمل علي رجع لحونه أيها الناس قفوا: فالميت شاعر كفنوه بالأزاهير وبالورد الندي واقبسوا آخر لمح شع في الوجه الوضي وادفنوه في رحاب المعبد المهجور في ظل السكينة إنه قد مل ضوضاء السكينة! ووداعا أيها الانسان الجميل والشاعر البديع.