والمبدعين في الفن والإعلام علي اعتبار أن الفن والإعلام هما محرابان للإبداع والابتكار، ولكن ما لا يخفي علي كثير منا أن الإبداع والابتكار يقدمان للناس كل ما هو جديد ومفاجئ وربما صادم وغريب وطريف في الوقت ذاته، وبالفعل نحن نري أن الساحة الفنية والساحة الإعلامية تقدمان للناس كل يوم ما هو جديد ومفاجئ وغريب وطريف وصادم للناس كذلك، ولكن السؤال المهم، هل بعض أو كثير مما يتم تقديمه اليوم في ساحة الفن والإعلام يحظي بأي شيء يدل علي إبداع حقيقي أو ابتكار حقيقي؟، وهل سألنا أنفسنا يوما هل الإبداع هو فقط ما يقدم للناس كل ما هو جديد ومفاجئ وغريب وطريف وصادم؟، أم أننا نتفق علي أن الشذوذ أيضا قد يقدم كل ما هو جديد ومفاجئ وغريب وطريف وصادم؟ وإذا اتفقنا علي هذا فكيف نفرق بين ما يقدمه الإبداع والابتكار وبين ما يقدمه الشذوذ؟، وهل نمتلك أي معايير نميز بها بين الإبداع وبين الشذوذ؟. أنا هنا لا أريد القيام بعملية تقييم لبعض ما يتم تقديمه في الإعلام والفن وإنما فقط أريد أن أفرق علميا بين مفهوم الشذوذ وبين مفهوم الإبداع ثم أترك للقارئ أن يميز هو بنفسه بين ما هو إبداع وما هو شذوذ. فأقول: الشذوذ: من الفعل شذ الذي يدل علي الانفراد والمفارقة: شذ الشيء يشذ شذوذا، والشيء الشاذ هو الشيء الغريب الذي ليس له أصل أو جذر ينسب إليه، فيقال للذين يكونون في القوم وليسوا من قبائلهم ولا منازلهم: (شُذَّاذُ الناس)، أي (شواذ الناس)، وأطلق هذا الفعل (شذ) علي ممارسة الجنس بين رجل ورجل، وامرأة وامرأة، لأن الطبيعي البديهي السليم المتسق مع الخلقة السوية أن يمارس الجنس رجل وامرأة، أما الشاذ والمنفرد وغير السوي وما لا أصل له وما لا جذر ينسب إليه في طبيعة الخلقة الآدمية أن يمارس الجنس رجل ورجل أو امرأة وامرأة، فإن حدث ذلك فهو الشذوذ وليس الإبداع أو الابتكار. أما الإبداع فقد أجمع كل العلماء الذين كتبوا عن الإبداع أنه هو قدرة العقل علي تكوين علاقات جديدة بحيث يحدث تغييرا في الواقع، وهو العملية الخاصة بتوليد منتج فريد وجديد بإحداث تحول من منتج قائم، هذا المنتج يجب أن يكون فريداً بالنسبة للمبدع كما يجب أن يحقق محك القيمة والفائدة والهدف الذي وضعه المبدع كاستجابة لمشكلة أو موقف مثير، وهو عملية صب عدة عناصر متداعية في قالب جديد يحقق احتياجات معينة أو فائدة ما وتعد هذه الحلول أو العمليات إبداعية بمقدار جدة أو أصالة العناصر التي يشملها هذا التركيب. وهو قدرة الفرد علي تجنب الروتين العادي والطرق التقليدية في التفكير مع إنتاج أصيل جديد أو غير شائع يمكن تنفيذه وتحقيقه. وهو العملية التي تؤدي إلي ابتكار أفكار جديدة، تكون مفيدة ومقبولة اجتماعياً عند التنفيذ. وهو مزيج من الخيال العلمي المرن، لتطوير فكرة قديمة، أو لإيجاد فكرة جديدة، مهما كانت الفكرة صغيرة، ينتج عنها إنتاج متميز غير مألوف، يمكن تطبيقه واستعماله. وهو إنتاج أفكار جديدة خارجة عن المألوف، علي شرط أن تكون أفكاراً مفيدة، وقد يكون الإبداع في مجال يجلب الدمار والضرر وهذا لا يسمي إبداعاً بل تخريب، فلو قلنا إن موظفاً ابتكر طريقة جديدة لتخفيض التكاليف أو لتعزيز الإنتاج أو لمنتج جديد، فتعتبر هذه الفكرة من الإبداع. أما البحث عن كل ما هو غريب وصادم كالفضائح والعلاقات الشخصية والسلوكيات الغريبة المنفردة التي ليس لها جذور ثقافية مفيدة وصالحة لحياة الناس ومعيشتهم سواء في الفن أو الإعلام أو الرياضة أو السياسة أو الاقتصاد وتقديم ذلك للناس علي أنه معضلة العصر وطريفة الطرائف وأسطورة الزمان ثم النفخ فيه وهو حدث صغير شاذ تافه نادر ثم تحويله إلي قضية رأي عام وشغل اهتمامات الناس به وتحفيز هممهم وإثارة فضولهم واستمرار تسليط الأضواء عليه وعملقته وأسطرته لهو الشذوذ الذي يفتك بالمجتمعات ويشوه وعي الناس من دون فائدة تذكر. إننا نهتف ونهلل لكل ما هو جديد ومفاجئ وغريب وصادم يطفو علي الساحة الفنية والإعلامية ثم نكتشف بعد قليل أن ما تم تقديمه ما هو سوي فقاعات رغوية وسحابة صيف سرعان ما انقشعت وتلاشت.