لا تكتب ربة الشعر القصيدة وتمليها على الشاعر، بل يبدعها الشاعر من نسغ روحه وفكره.. والفيلم السينمائى الرائع لا ينتجه الفن وإنما ينتجه الفنان العبقرى، والرواية الملهمة لا يكتبها الأدب ولكنها نتاج قريحة روائى مبدع، والمسرحية الجذابة والمتوهجة لم يسهر الليل عليها فن المسرح ولكنه الكاتب المسرحى المشحون بالفكر والخيال، ثم جسدها مخرج موهوب ومثقف، واللوحة الساحرة لم ترسمها ربة الفن ولا الفرشاة ولم يرسمها المنظر الطبيعى ولكنه الفنان الذى بلغ درجة عالية من النضج وتفرغ لها ولغيرها كما يتفرغ الراهب، والمقطوعة الموسيقية كذلك. على أن أى واحد من هؤلاء قبل أن يقترب من عمله ويلمس أدواته ليطلق عبيره ويقطر عسله.. قرأ وشاهد وسافر وتأمل وفكر وغاب عن الدنيا والناس.. عانق المعانى والكلمات والأحلام والخيال وتصور وجودا غير الوجود وعالما غير العالم.. طار وحلق وانتشى ورفرف بكل أجنحته، ولما حملت أعماقه بذرة تنامت وتخلقت.. حط على الشجر، ومضى يجوس خلال المخاض الاستثنائى ليضع بيضته التى تملك القدرة على أن تجذب أرواحنا وعقولنا فى إثرها لننهل من الرحيق المذاب فى حناياها لنغذى أعماقنا الظمأى.. الفنان إذن هو الشجرة، والفن هو الثمرة.. الفنان هو السبب والفن هو النتيجة . الفنان هو الأصل.. ومهمة صناعته أمر عظيم وجلل لأن وجوده فى الأمة ثروة ومجد، لا يدرك قيمته إلا الشعوب الواعية المتحضرة، أما الشعوب المتخلفة فلا تحفل إلا بمن يقفز ويتشقلب ويهذى ويدعى القدرة على السحر. من غير المتوقع أن يقدم لنا الفنان غير المثقف وغير الناضج أو متوسط الموهبة أو الذى رضى عن نفسه عملا ذا قيمة، فكل ما سيوفره هؤلاء أعمال عادية وربما أقل، لا تحفر لها اسما . وقد لا يتجاوز بعضها الغثاء الذى يبدد الوقت وينتج السأم واللامبالاة، وكثيرا ما تقع أعيننا على تلك الأعمال فنسرع بتجاهلها وعادة ما يسبقنا النسيان إليها فذاكرة التاريخ ليست مؤهلة كى تحتفظ بكل شىء. ويكشف تاريخ الفن والأدب أن الشاعر والروائى والمسرحى والسينمائى والموسيقى والتشكيلى وغيرهم ممن لا يهتمون بحصيلتهم الثقافية، ولا يحرصون على تزويد بوتقتهم الإبداعية بالتجارب و رصد حركة الحياة ومصائر البشر، ولا يبذلون أى جهد لبناء الذات المبدعة سوف تذبل مواهبهم مع الأيام وتأكل بعضها كالنار التى لا تجد ما تأكله فتتوهج ثم تنطفئ. سوف يفتقد الفنان الذى استسلم لما حقق القدرة على الابتكار والتجديد وتجف منابع خياله، فلا يملك القدرة على التحليق ولا السبيل لإحداث الصدمة المدهشة، أو الدهشة الصادمة و لن يتمكن من هز شجر الأفكار ولن يزلزل الوعى ويحرك الماء الراكد، بل سيزيد الراكد ركودا والثابت جمودا. الفنان إذن هو الذى يصنع نفسه ويشحذ أدواته ويغسل روحه من أجل تعميق الرؤية، وهو المسئول الأول عن إذكاء قريحته وإطلاق أحصنة خياله، لأن الفنان مهما كان عطاؤه خصيبا لا يمكن أن يضع بصمته دون خيال، ولن يحتسب له أدنى حضور إلا بالابتكار والإبداع الجديد والمميز، على أن الهيئات الحكومية والأهلية والجماعات بل والأفراد عبر شتى التقنيات والوسائط يمكن أن تسهم بدور فى صناعة الفنان بتوفير ما يلزمه من تشجيع وأدوات ثقافية ومادية ومحفزات على الاستمرار واستنهاض الإرادة والطاقة لتطوير إنتاجه، لكن الفنان الأصيل والموهوب هو فى الأصل صانع نفسه وهو أيضا خالق الفن ومبدعه فى مختلف تجلياته . والسؤال إلى أى مدى يتنبه كثير من الفنانين والأدباء مثلا لفكرة صناعة أنفسهم.. أقول هذا لأنى على ثقة أن أكثرهم غير مبال بضرورة صناعة نفسه كفنان، وإنما هو معنى فقط بإقامة العلاقات المتعددة وغيرها مما يعين على التقاط الفرص والوصول إلى منابر الإعلام بوصفها المجد الحقيقى.