تعتبر المفاوضات من بين أهم وسائل تسوية النزاعات الدولية، وعلي مر العقود أصبحت مادة يتم تدريسها في الجامعات وموضوعاً رئيسياً في برامج الدورات التدريبية للدبلوماسيين في جميع الدول، وتبرز الدراسات المتخصصة في هذا الخصوص أهمية تهيئة الأجواء لها والإعداد الجيد من قبل أطرافها قبل انعقادها؛ حيث يقوم كل طرف بتحديد أفضل بديل يرغب الوصول إليه من خلال المفاوضات، والذي يمثل بالنسبة له الخط الأحمر الذي يلزم عنده مغادرة الطاولة، ويتزامن مع ذلك قيام كل طرف بتحديد معالم الحل الأمثل بالنسبة له ولشريكه أو شركائه من خلال توسيع دائرة التفاوض وتقديم بدائل لجميع قضاياها يمكن أن تشكل أرضية لاتفاق مشترك يحقق مصالح جميع الأطراف ولو بشكل جزئي. وبالنظر إلي ما سبق وتطبيقه علي المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية حول قضايا التسوية النهائية التي تم إطلاقها في واشنطن مطلع الشهر الجاري وتوالت جولاتها في شرم الشيخ والقدس قد يكون من المفيد الإشارة إلي النقاط التالية: 1. بدلاً من تهيئة الأجواء المواتية لعملية التفاوض، تم السعي لتهيئة الأجواء لإطلاق التفاوض، وبعبارة أخري فإن الهدف الرئيسي تمثل في جمع الأطراف المعنية حول طاولة المفاوضات استناداً إلي رغبة تم التعبير عنها لفظياً في تحقيق السلام، عوضاً عن الارتكان إلي نوايا حقيقية للتقدم الفعلي والحقيقي، وبالرجوع إلي الوراء يتضح أنه تم اللجوء إلي الأسلوب ذاته لعقد مؤتمر مدريد الذي ركز أساساً علي الجانب الشكلي (مشاركة الأطراف المعنية حتي وإن تعارضت مواقفهم بشكل جذري) تاركاً القضايا الموضوعية بإشكالياتها وتعقيداتها لمراحل تالية يتم خلالها الحديث عن "المأزق" أو "الأزمة" أو "دفع" عملية السلام. 2. إن الحديث عن التفاؤل والتشاؤم فيما يتصل بهذه المفاوضات يعكس في جوهره الاختلاف القائم في منطلقات التعامل خلالها، ففي حين يتبني الطرف الإسرائيلي منهجية المصالح (مُنحياً مؤقتاً تلك الخاصة بالحقوق التاريخية) التي تستند إلي توسيع دائرة المفاوضات (بإضافة قضايا جديدة) وتجزئة الموضوعات (لتسهيل عملية التبادل) استناداً إلي ما تم فرضه علي أرض الواقع خلال عقود، يركز الطرف الفلسطيني منذ البداية علي منطلق الحقوق (وإن لم يستبعد في وقت لاحق ذلك المتصل بالمصالح)، الذي يتمتع بسند قانوني قوي يتمثل في العديد من القرارات الصادرة عن الأممالمتحدة التي تُوصف السياسات الإسرائيلية كالاستيطان والضم والتهويد والتهجير علي أنها غير شرعية، ومن الثابت أن منطقي المصالح والحقوق يتعارضان سواء من حيث أسلوب التعامل والنتيجة المتوقعة. 3. من الطبيعي أن يتم خلال عملية التفاوض تقديم بدائل وحلول وسط من قبل الأطراف المعنية أو طرف ثالث معني بالمفاوضات، ومع ذلك فإن القاعدة العامة تتمثل في أن تقديم الحلول الوسط يكون بهدف الوصول إلي تسوية تُوفق بين مصالح الأطراف، وليس فقط من أجل ضمان الاستمرار في العملية التفاوضية، خاصة وإن اتصل الأمر بموضوع علي درجة عالية من الأهمية والحساسية من قبيل قرار استئناف عملية الاستيطان أو الاستمرار في تجميدها ولو جزئياً. 4. إن احتمال التوصل إلي صيغة غامضة تجمع بين الامتناع الإسرائيلي عن الإعلان رسمياً عن استئناف البناء في المستوطنات مع إعطاء الضوء الأخضر للعمليات التي تدخل تحت توصيف "النمو الطبيعي"، أو بمنع البناء في المستوطنات العشوائية والاستمرار فيه داخل الكتل الاستيطانية بشكل مستتر، يظهر الطرف الإسرائيلي علي أنه قدم تنازلات، يلزم علي الطرف الآخر أن يقابلها بتنازلات مضادة، في حين أن الواقع يشير إلي العكس. وفي ضوء ما تقدم يمكن فهم ما يتردد حول الشكوك التي تثار من قبل الأطراف العربية حول مصير المفاوضات المباشرة، وتهديد الجانب الفلسطيني بالانسحاب منها، ومحورية تاريخ الساد س والعشرين من سبتمبر، وتصريحات ليبرمان حول عدم قبول حزبه لتمديد تجميد الاستيطان، والحلول الوسط التي يتم الحديث عنها حول تجديد العمل بقرار تجميد الاستيطان لثلاثة أشهر يتم خلالها التفاوض حول الحدود (تقديم تنازل صعب) يلزم من وجهة النظر الإسرائيلية أن يقابله تنازل فلسطيني قد يكون القبول بضمها للكتل الاستيطانية، أمر سبق أن ألزم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بلاده به منذ إبريل 2004 .