في الوقت الذي رفض فيه عدد ليس بالقليل من أساتذة الفلسفة الإدلاء بشهاداتهم حول فكر وشخص المفكر الجزائري محمد أركون، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة السوربون، الذي رحل مؤخرا عن عمر يناهز 82 عاما، فإن هناك واقعة جديرة بالذكر تتعلق بمدي إقبال الجمهور عليه، ففي زيارته الأولي لمصر عام 2006 لإلقاء محاضرة عن تطورات الفكر الإسلامي، ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، امتلأت قاعة "6 أكتوبر" بالجمهور، ورغم أن المحاضرة كان مقررا لها ساعة واحدة، فإنها امتدت لأكثر من ساعتين، وبعد نهايتها طالب الجمهور أركون بإلقاء محاضرة ثانية إضافية، وهو ما اضطره لتأجيل سفره استجابة لمطلب الجماهير، وألقي محاضرته الثانية في اليوم التالي، وكان موضوعها عن التحديات التي تواجه الإسلام. في تلك الزيارة، رفض أركون إجراء أية حوارات صحفية، إلا حوار واحد أجراه مع محرر هذه السطور، وفيه أكد أنه كان يحلم بعلمانية منبثقة عن الحضارة الإسلامية تحمل خصوصية عربية وتغاير العلمانية التي أفرزتها المجتمعات الغربية ذات الخلفية المسيحية، وقد سعي في ذلك إلي تطبيق المنهج الأنثروبولوجي في تعامله مع التاريخ الإسلامي، وهو ما أثار غضب الأصوليين الإسلاميين. اعتبر أن الفكر العربي يعاني نقصا حادا في ميدان التاريخ الثقافي، بحيث لا نزال نعيش عالة علي إنتاج الرائدين الكبيرين جورجي زيدان وكتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) وثلاثية: فجر وضحي وظهر الإسلام، لأحمد أمين، علي الرغم من مرور قرابة قرن علي صدور العمل الأول، وأكثر من نصف قرن علي صدور العمل الثاني، وأوضح أنه ما من طريق أفضل للتأثير في الذات ومساءلتها من العودة إلي التاريخ بشرط ألا تكون عودة تقديس. وعن نظرة أركون للتراث يقول: يمكن النظر إلي التراث -أي تراث- علي أنه مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور والحقب الزمنية، وليس هناك داع للقلق علي مصير التراث فهو سيستمر في البناء، ويعتقد أن مفهوم التراث الحي هو الشيء الوحيد الذي يشفع لنا حتي اليوم في التكلم عن وجود وعي إسلامي، وتحت راية التراث اندلعت الكثير من حركات التحرر الوطني من الهند شرقا وحتي الجزائر غربا، وكان للرموز التراثية الدور الأول في تعبئة الجماهير وحشدها في التصدي ضد الاستعمار. وكان أركون يري أن التاريخ مصبوغ بالصبغة الأيديولوجية التي هي قراءة موجهة، وطالب بضرورة المعرفة العلمية للدين التي يمكن من خلالها إعادة النظر في التاريخ الإسلامي. رصد الدكتور عمار علي حسن مشكلة في فكر أركون تتمثل في تعامله مع الفكر الإسلامي من خلال أدوات ومناهج غربية، ومن ثم فشله في إقناع العرب بمشروعه، وأضاف حسن: كما أن أركون لم يفلح في إقناع الغرب في نقد الاستشراق والتراكم المعرفي الغربي ولقد تعامل مع النص القرآني كأنه نص أدبي أو فكري أو إبداعي وطبق عليه مناهج العلم الحديث وهذه المناهج خاف منها النقاد العرب وأدركوا شجاعة أركون في التعامل معها، ولكنه تمسك برؤية المستشرقين الذين تعاملوا مع النص باعتباره قابلا للأخذ والرد عكس الفقهاء الذين نظروا إليه باعتباره نصا مقدسا ومعجزا والتعامل معه باعتباره كلام الله ولقد مات أركون دون أن يسبر أغوار النص القرآني لكنه لم يستلهمه ويتعامل معه التعامل الذي يليق به. أما الدكتور الطاهر مكي، أستاذ الأدب الإسلامي بكلية دار العلوم، فقال: لقد استطاع أركون أن يختط لنفسه نهجا فكريا محددا ونقطة ابتداء تقوم علي ردم الهوة بين ماضي الفكر العربي وحاضره من خلال فهم علمي واضح لا يتعارض مع التجديد ولا يتناقض مع الجوهري والأساس، وخسارة الأمة العربية فيه فادحة، لأنه أدلي بدلوه في نقد العقل العربي بغيبياته وسلبياته. وفي افتتاح مؤتمر الترجمة الذي كان المركز القومي للترجمة قد عقده في مارس الماضي، تحدث المترجم السوري هاشم صالح المتخصص في ترجمة أعمال الكاتب والمفكر الجزائري الأصل محمد أركون، قائلا: ارتبطت بفكر أركون لربما يحدث ثورة فكرية في فهمنا لتراثنا العربي والإسلامي المجيد الذي نتمسك بمظهره دون جوهره، وقد أكد أركون أن مشكلة العرب المسلمون أنهم يعانون من نوعين من القطيعة، الأول هو القطيعة مع تراث العصر الإسلامي الذهبي وتركيزنا علي عصور الانحطاط، والثانية القطيعة مع الحداثة الأوروبية رغم المحاولات التي تجري حاليا للتغلب عليها.