العظماء وحدهم، لا تسبق أسماؤهم أية ألقاب، منهم "محمد أركون" ( 1928 - 2010 )، أو (ابن رشد هذا العصر) الذي رحل بجسده عن عالمنا منذ أيام . آمن أركون بأن: " الحق لايضاد الحق ، بل يوافقه ويشهد له " كما قال أبو الوليد في (فصل المقال)... فالحقيقة واحدة وإن اختلفت دروبها والطرق التي تفضي إليها، وهذا التعدد هو أساس حرية الفكر عنده. فالأديان والفلسفات والعلوم والمناهج دروب مختلفة إلي الحقيقة الواحدة ، وهي من أروع الأفكار الإنسانية علي مر العصور التي تحترم " الآخر " وتقبله كما هو، بصرف النظر عن كون المفكر وثنيا ، أو تابعا لدين آخر. وانطلاقا من " وحدة الحقيقة "، أدرك أركون مبكرا بأن هناك حضارة انسانية واحدة، وهويات ثقافية متعددة، وأن النموذج الأكمل لهذه الحضارة الواحدة هو النموذج الغربي الذي تشكل من روافد حضارية مختلفة - مصرية وشرقية وعبرية ويونانية ورومانية وعربية واسلامية - التي تكاملت وانصهرت ونضجت جميعا في عصرنا الراهن في هذه الحضارة الغربية، ولا سبيل لتقدمنا بغير الأخذ بأسباب هذه الحضارة. كما آمن أركون بأن الحضارة الراهنة ليست هي "الآخر" من حيث أنها حضارة، أي عقلانية ومناهج علمية حديثة وهموم انسانية مشتركة، فليس الغرب الحضاري هو " الآخر " الذي يقابل " الذات "، وإنما هو بعد من أبعاد ( الأنا )، إن لم يكن هو " الأنا " الضروري . ف "الأنا" موجود في هذا "الآخر" الحضاري، واقعاً تاريخياً، وامكاناً وضرورة مستقبلية. من هنا لم يكن مشروعه دعوة الي التبعية للغرب بل هو في جوهره دعوة الي النهضة والتقدم، مثل دعوة أبو الوليد ابن رشد تماما، وهو ما يفسر نظريته في "الأنسنة" التي تنطلق من فكرة الحضارة الإنسانية الواحدة، وإلحاحه الدءوب علي ضرورة إدراج " الإسلام " في " الحداثة "، مع تأكيده علي المزج المتواصل بين مفهومي (الإسلام والحداثة )، للخروج من هذه الدائرة الدوجماطيقية المغلقة التي تغذي الجدل العقيم بين الإسلام والغرب وصولا إلي ما سماه " تاريخ الزمن الراهن " . علي مدار نصف قرن وظف أركون المنهجيات العلمية الحديثة في استقراء ونقد التاريخ والفكر الإسلامي، حيث أصبحت قراءة النصوص اليوم، بعد ازدهار البحوث اللسانية والسيميولوجية والتفكيكية، عملية معرفية شاملة تجمع التحليل اللغوي والتساؤل التاريخي والتدبر الفكري لاستخراج جدلية : اللغة التاريخ الفكر. ونظرة سريعة تكفي للتأكد من شيوع مفردات معينة وأساليب تعبير مختلفة من عصر لعصر آخر، ومن ثم تلزم قراءة النصوص الماضية الحذر في اسقاط معانيها الراهنة علي معانيها السابقة، وهو ما يعرف الآن (بالمغالطة التاريخية)، وبمعني آخر ينبغي قراءة النصوص (قراءة تزامنية) Synchronique ، لأنه لا يوجد فصل بين اللغة والتاريخ والفكر، أو هذه العلاقة الثلاثية الدائرية التفاعلية (لا الخطية أو السببية). استخدم أركون في بداياته المنهج التاريخي الفيلولوجي في كتابه عن مسكويه " نزعة الأنسنة في الفكر العربي "، ثم لجأ إلي تضفير المناهج العلمية الحديثة حين تحول إلي نقد الاستشراق، فيما أسماه " بالإسلاميات التطبيقية "، خاصة في قراءته للنصوص، ومنها القرآن الكريم . وقد أثارت كتاباته باللغة الفرنسية حين ترجمت إلي اللغة العربية نوعا من سوء الفهم والحظ أيضا، رغم الجهود الجبارة التي بذلها " هاشم صالح " في ترجمة أعمال أركون بأمانة وحرفية عالية، وحسب " سليمان بختي "، الذي نقل عن أركون قوله : "الناس في هذه اللغة يفهمون القول بغير قصده، ويكتبون أشياء ضد ما تقصده، فيما قصدك أنت تحرير العقول وتحطيم الأغلال" ... وتلك مأساة التنويريين في عالمنا العربي الإسلامي البائس من طنجة إلي جاكرتا، ومنذ وفاة ابن رشد قبل ثمانية قرون وحتي وفاة أركون .