لماذا لا يؤخذ كلام وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عن السودان من زاوية إيجابية؟ كل ما قالته كلينتون قبل أيام مرتبط بواقع لا مفرّ منه يتمثل في ان اكثرية ساحقة من الجنوبيين تريد الانفصال وإقامة دولة مستقلة. وهذا يعني أن الانفصال «حتمي»، من وجهة نظر أمريكية. أضافت وزيرة الخارجية الأمريكية ان السودان «قنبلة موقوتة». كانت محقة في ما قالته من منطلق أن الانفصال لن يحل أي مشكلة في السودان، بل قد يزيد الوضع تعقيدا، خصوصا ان الفترة التي تفصل عن موعد الاستفتاء الذي سيتقرر بموجبه الانفصال لا تزيد علي اربعة اشهر. هذه الفترة غير كافية لايجاد حلول للمشاكل المطروحة التي يهدد استمرارها، بعد قيام دولة الجنوب نتيجة الاستفتاء، بحروب اهلية ومزيد من الشرذمة علي مستوي البلد كله. من يضمن أن الأمر سيقتصر علي قيام دولة واحدة في الجنوب؟ ومن يضمن ألا يطال الوسط والشمال؟ من يعرف السودان جيدا يقول إن خطوة انفصال الجنوب قد تمهد لقيام دول عدة في السودان. هناك شمال الشمال وهناك دارفور وهناك كردفان وهناك شرق السودان القابل لان تكون فيه دولة. هل تأخر البحث عن حلول للسودان حيث بات هناك انتشار كثيف للسلاح في كل المناطق بما في ذلك في الخرطوم نفسها وفي مخيمات الفقر التي تحيط بها؟ يبدو السودان مقبلا علي تطورات كبيرة نظرا لأن انفصال الجنوب ليس المدخل المناسب لإخراج البلد من أزمته في غياب المعالجة العقلانية للوضع برمته. علي سبيل المثال وليس الحصر، ليس معروفا بعد كيف ستحل مشكلة تقاسم العائدات النفطية، علما ان ثمة من يتحدث عن التوصل، قبل أيّام، إلي حل وسط في هذا المجال لا يحرم الشمال من حصة عادلة من العائدات نظرًا لأن معظم النفط موجود حاليا في الجنوب. ولكن في حال التوصل إلي تسوية في شأن العائدات، ماذا عن ترسيم الحدود وماذا عن المناطق المتنازع عليها بين الشمال والجنوب التي في باطنها مخزون نفطي؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة قبل موعد الاستفتاء في التاسع من يناير المقبل. ولكن يبقي السؤال الأساسي هل يمتلك الجنوب مقومات لدولة مستقلة.. أم أن الحديث منذ الآن عن دولة فاشلة؟ في النهاية، ما لا بدّ من تذكره باستمرار أن الحروب بين الشمال والجنوب استمرت ربع قرن، لكن عدد ضحايا الحروب الداخلية بين الجنوبيين أنفسهم فاق عدد الذين سقطوا في المواجهات مع الجيش السوداني. أبعد مما يدور داخل السودان نفسه، لا مفرّ في نهاية المطاف من التفكير في الأبعاد الإقليمية لقيام دولة مستقلة في الجنوب. كيف سيؤثر ذلك علي دول الجوار؟ ماذا عن النيل الذي يعبر بعض روافده السودان من اقصي الجنوب إلي اقصي الشمال؟ في أي فلك ستدور دولة الجنوب أو الدول التي قد تقوم نتيجة تقسيم السودان؟ من حق الولاياتالمتحدة أن تقلق وأن تأخذ قضية مستقبل السودان علي محمل الجد إلي درجة أن الرئيس أوباما سيشارك في الرابع والعشرين من سبتمبر الجاري في اجتماع يعقد علي هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة. سيخصص الاجتماع للسودان وسيكون التركيز فيه علي كيفية استيعاب الوضع الناجم عن انفصال الجنوب عن الشمال. ما يمكن فهمه من كلام هيلاري كلينتون والتحركات الأمريكية في اتجاهات مختلفة، بما في ذلك الاتصالات التي تجريها وزيرة الخارجية مع كبار المسئولين في الشمال والجنوب، أن العالم يتعاطي مع أمر واقع جديد اخذت الولاياتالمتحدة علما بقيامه. هناك بكل بساطة إعادة رسم لخريطة دولة أفريقية مهمة اسمها السودان. ولذلك، من الافضل تفادي الكلام الذي يصدر بين الحين والآخر عن مؤامرة أمريكية أو غير أمريكية تستهدف تقسيم السودان. السودان في حكم المقسّم. السؤال الآن كيف يمكن الحد من الاضرار التي ستنجم عن هذا الواقع؟ من حسن الحظ أن هناك في الخرطوم من يتصرف بطريقة عقلانية، فالرئيس عمر حسن البشير أعلن قبل أشهر عدة أنه سيكون أول من سيعترف بدولة الجنوب في حال شاء الجنوبيون الانفصال. هناك في الشمال من هو علي استعداد للتعاطي مع الحقائق بدل الرهان علي الأوهام. هناك من يعتقد أن الثروة النفطية الحقيقية موجودة في الشمال وليس في الجنوب وأن التنقيب الفعلي عن النفط في أراضي الشمال، غير المتنازع عليها، لم يبدأ بعد. أكثر من ذلك، إن نفط الجنوب غير قابل للتصدير من دون المرور في الشمال. وهذا يعني أن الجنوب، الذي لا يمتلك بنية تحتية خاصة به تسمح له بتصدير نفطه، سيظل تحت رحمة الشمال. وهذا ما دفع هيلاري كلينتون إلي القول إن علي الجنوب القبول بتسويات في شأن اقتسام الثروة النفطية «إلا إذا كان يريد سنوات أخري من الحروب». متي توافرت الحكمة، يصبح في الإمكان التعاطي مع مشاكل السودان بطريقة تؤدي إلي استيعابها. شعار الوحدة جميل. لكنه يظل شعارا نظرا إلي أن لا مجال للمحافظة علي وحدة السودان في أي شكل من الأشكال، خصوصا بعد مقتل الزعيم الجنوبي جون قرنق في حادث غامض بعيد توقيعه الاتفاق الذي أنهي الحرب الأهلية في العام 2005 . من هذا المنطلق وفي ظل التعقيدات التي يعاني منها الوضع السوداني، يبدو مفيدا طرح السؤال البسيط الآتي: كيف نستفيد من انفصال الجنوب بدل البكاء علي الاطلال، اطلال الوحدة، وكيف تفادي انتقال العدوي إلي مناطق أخري؟ كاتب لبناني