بالأمس كتبت عن مشكلة الفراغ الشخصي للمواطن المصري.. وهي المساحة التي من المفترض أن تحيط بكل إنسان حفاظا علي خصوصيته وحرية حركته والصحة العامة.. وهي المساحة التي تتناقص يوما بعد يوما في بلدنا وتكاد تنعدم تماما في العديد من الأماكن، وقد ذكرنا بعضًا منها بالأمس كالمدرسة، والجامعة، والسوبر ماركت، وطابور البنك أو قطع التذاكر في أي مكان. ومن أمثلة انعدام الفراغ أيضا مثل السيارات في اشارة المرور.. جرب أن تقود سيارتك ثم يقف الشارع فتترك المسافة الصحيحة بينك وبين السيارة التي أمامك، ولسوف تكون هذه هي الكارثة العظمي التي قد تنتهي بك في المستشفي.. إذا كنا لا نسمح للإنسان بفراغ بسيط حوله، أتعطي أنت مساحة للسيارة؟! إن فعلت ذلك سوف يأتي تاكسي ويقف أمامك ولو بزاوية أفقية حتي إذا ما تحركت السيارات أخذ هو مكانه أمامك.. أو تجد كل من حولك وقد أطلقوا «الكلاكسات» لينبهوك أن من حقك أن تسير للأمام قبل أن يأتي أحدهم ويأخذ المكان.. وأما الآتي خلفك الذي يري المساحة الخالية أمامك فسوف يتقدم حتي تلتصق سيارته بسيارتك ليجبرك علي التقدم وشغل المساحة الفارغة.. فأنت المخطئ الذي يترك كل هذه المساحة الخالية أمامه. لماذا لا تعلمنا ثقافتنا وتقاليدنا أن علي كل مواطن أن يحترم الفراغ الشخصي للآخرين؟ هل لأننا نعاني من الزحام في كل مكان؟ أم لأننا لا نهتم بالآخر أصلا؟ الغريب أننا حتي عندما ندخل إلي قاعة كبيرة وعددنا قليل نجلس بجانب بعضنا البعض ونملأ صفين أو ثلاثة تاركين بقية القاعة فارغة ونقترب من بعضنا البعض حتي عندما تكون الأجواء حارة وخانقة.. ونحن نسكن في بلادنا علي شريط ضيق حول النيل ونترك مساحات عظيمة من الأراضي خالية.. ونحادث بعضنا البعض بصوت عالٍ ولكن من علي مسافة قريبة جدًا جدًا. كما أننا لا ندرك علي الإطلاق أننا بتلك التصرفات التي نعتقدها بسيطة قد نتسبب في كوارث عظيمة.. فزيادة اقترابنا من الآخرين تساعد علي تفشي الأوبئة وانتشار الأمراض.. وسكنانا في ضيق من الأرض يسبب لنا أمراضا اقتصادية واجتماعية ونفسية لا حصر لها.. وانتهاكنا للمساحة الشخصية للآخرين قد يفزع طفلا أو كبيرا وقد يؤذي الناس من حولنا ونحن لا نشعر بهذا. هل نحن صرنا شعوبا لا يشعر أفرادها بالأمان إلا إذا تقاربوا؟ هل اعتدنا علي الزحام حتي أصبحنا نألفه ولا نضيق به؟ أم أننا بسبب قلة التعليم وانعدام الثقافة لا نشعر بغضاضة في الاقتراب من الآخرين وانتهاك الهواء الذي يتنفسونه.. والفراغ الذي يتحركون فيه؟ هل تتحكم فينا ثقافة الجماعة والقبيلة والتلاحم بين أفرادها فنترجم هذا إلي تلك الصفة السلبية وزيادة الاقتراب من الآخرين؟ ولكننا لم نعد نسلك بسلوكيات الجماعة من احترام الآخرين والدفاع عن الجار والقريب والشهامة وحماية الصغير، فلماذا تتبقي لدينا السلبيات وقد غابت الإيجابيات؟ في المحافل الدولية يتندر علينا الآخرون حين لا نحترم الفراغ الشخصي، وهي صفة من أوليات التحضر.. هل حان الوقت لنتعلمها ونعلمها لأبنائنا؟