كثيرا ما كتبت عن هذه المشكلة ولا توجد إجابات لهذه التساؤلات: لماذا لا نحترم الفراغ الشخصي للآخرين؟ لماذا نقترب كثيرا ممن نحادثهم أو نسمعهم ولا نفكر أبدا في أن لكل إنسان حقه في فراغ من الهواء المحيط به حتي يتمكن من التنفس والحركة والحرية! لماذا لا نعلم أولادنا أن يبتعدوا قليلا عن زملائهم في المدرسة والنادي والشارع حتي يشعر كل واحد ببعض الحرية.. وحتي لا تنتقل الأمراض! ولكن كيف يحدث هذا ونحن - في معظم المدارس - نجعل كل طفلين أو ثلاثة يجلسون متلاصقين في مقعد واحد! كيف يدركون مفهوم الفراغ الشخصي وهم يكادون يلتصقون كل بمن أمامه وخلفه في طابور المدرسة ولا يرشدهم أحد أنه لابد من ترك مسافة ذراع ممدودة علي الأقل بين كل طالب ومن أمامه في الطابور؟ تخيل هذا الطابور علي سلم المدرسة وقد وقع تلميذ: سيسقط باقي الأولاد الذين خلفه كما تسقط قطع الدومينو المرصوصة واحدة خلف الأخري والفرق هنا أن من سقطوا فوق بعض هم أطفال صغار. اذهب إلي السوبر ماركت الكبير وقم بشراء ما تريد ثم قف في الصف حتي تدفع ثمن ما فعلت في حياتك بأسرها - أقصد ثمن ما اشتريت.. ماذا يحدث؟ إذا تركت مكانا أمامك حتي لا تضايق الواقفين في الصف ستجد سيدة متعجلة من أمرها قد عميت عن أن تراك وجاءت مسرعة بعربتها المليئة ووقفت فجأة أمامك وملأت الفراغ.. وعبثا ستحاول أن تقنعها أن هذه المساحة هي للتنفس ولاحترام الغير.. والأدهي من ذلك أنك قبل أن تأخذ منها حقا ولا باطلا ستأخذ وخزة في ظهرك من عربة زبون آخر جاء ليقف خلفك في الصف وبالطبع لم يسمع من قبل أن هناك ما يسمي بالفراغ الشخصي وهو أيضا لا يدرك أن عربته المليئة العامرة قد أصابتك.. والحل الأفضل في مثل تلك الحالة هو أن تترك أنت عربتك بما فيها وتهرب بنفسك حتي تنجو. أما إذا ذهبت إلي البنك أو لقضاء أية مصلحة تتطلب الوقوف في طابور ومعاملة الموظف أو المسئول عبر شباك أو ما شابه ذلك فالويل لك أيضا.. فأنت ستجد من يقف خلفك قد تحول - بقدرة قادر - ووقف بجانبك ينظر في أمرك ويمعن النظر وفي محاولاته تلك سيقترب منك جدا وربما يسند يده علي كتفك مثلا ولا يشعر أبدا بأي غضاضة.. وإذا نظرت له باستنكار أو عاتبته سوف تتهم من قبل الجميع بالتعالي والعجرفة.. أما إذا ابتعدت قليلا عنه وأنت علي أمل بأنه سيفهم مقصدك ويبتعد هو الآخر، فأنت مخطئ مخطئ.. لأنه سوف يقترب منك أكثر وكلما رجعت أنت للوراء لتترك مساحة سينتهكها هو ويتقدم نحوك.. والحل هنا هو أن تسعل بشدة وتخرج منديلك وتدعي الإصابة بالبرد المعدي وقد تنجح تلك الكذبة أو لا تنجح. وقس علي هذا الأمر مواقف كثيرة نتعرض لها بسبب عدم احترام هذا الفراغ الشخصي.. والذي نشعر بانعدامه في الصيف أكثر مما نشعر به عندما يكون الجو أقل حرارة.. فما هي الأسباب التي تمنع حضارتنا وثقافتنا من استيعاب هذا السلوك الحضاري؟ للحديث بقية.