مثلما يثبت أحدهم ملصقا بطول زجاج السيارة الخلفي وعليه عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله, ويظن بذلك أنه رفع كلمة الاسلام عالية خفاقة, أو كما يضع أحدهم صورة سمكة وعليها المسيح يحبك ويعتقد أن ذلك إعلاء من شأن المسيحية, ومثلما تلقن المعلمة تلاميذها في المرحلة الابتدائية أن من يأكل من أكل بيت مسيحي فإن عليه أن يتطهر وألا يعاود فعلته ظانة أنها حامية حمي الدين الاسلامي, ومثلما تؤكد الأم علي ابنها في صباح كل يوم ضرورة عدم مصادقة الأولاد المسلمين معتقدة أنها تحافظ علي تعاليم الدين المسيحي, كذلك الحال بالنسبة لكل من تغلي الدماء في عروقه, ويشارك في تظاهرة مطالبة بعودة مواطن مسيحي أشهر إسلامه إلي الكنيسة بالقوة ظنا منه أن خروج شخص من المسيحية تقويض للدين, أو يبتهج ويفرح لاعتناق مسيحي الاسلام معتقدا أن الاسلام زاد قوة. ما يحدث في كل مرة يتردد فيها أن مواطنا اختفي, وما يقال, سواء حقيقة أو من وحي الخيال, من انه هجر دينه إلي دين آخر من مشاهد هزلية لا تعني شيئا لا تعني إلا شيئا واحدا لا ثاني له: فراااااااااغ. الفراغ هو الذي يلهي شعبا بأكمله عن أمور حياته من أجل مباراة كرة قدم, وهو الذي يهييء له أن الدين جلباب ولحية أو خمار وطرحة, وهو الذي يدفعه كذلك إلي إدمان المخدرات, ويشجعه علي تدخين السجائر, ويدفعه إلي البحث عن فتاة ليل تضفي بعض الإثارة علي حياته. وهو الذي يدفع الشباب دفعا إلي التطرف, سواء الديني أو غير الأخلاقي, فكل ما زاد علي الحد ينقلب إلي الضد. وهو الذي يشجع علي التحرش بالنساء, والوقوف علي النواصي طيلة ساعات الليل. وهو الذي يشجع علي الاستماع لخطب دينية بالساعات عن عذاب القبر والثعبان الأقرع, وهو الذي يشجع علي مشاهدة الأفلام الإباحية. والفراغ هو المتهم الأول في تشجيع الفقراء علي إنجاب دستة عيال, وهو الذي يقنع الأغنياء باقتناء قصر في مارينا وفيلا في العين السخنة, وشاليه فاخر في الغردقة وشقة فندقية في شرم الشيخ, رغم أنهم يمضون الاجازة في نيس وباريس وكان. والفراغ نفسه هو الذي يدفع البعض إلي إدمان الانترنت بشكل مرضي, فعيشون في عوالم افتراضية تقتلعهم من جذور الواقع تماما. وهو الذي يجعل آخرين يغرقون تماما في الماضي فيتمسكون بكل ما هو قديم, وينبذون كل ما هو جديد. وهو الذي يجعل لاعب كرة يوقع لناد رغم ارتباطه بآخر, ويشجع المدرس علي الانغماس في الدروس الخصوصية رغم علمه بأنها غير قانونية وغير أخلاقية لا سيما وأنه توقف عن الشرح في داخل الفصل. وهو الذي يدفع ولي الأمر إلي تشجيع ابنه علي نقش ما ورد في ورقة زميله لأنالناس لبعضيها لكنه يضربه إن فاتته صلاة العصر. والفراغ بالمناسبة أنواع وأشكال. فمنه السياسي, ومنه الأخلاقي, ومنه الفكري والنفسي والاجتماعي, ومنه الديني, وكذلك الغذائي, والتنموي, والتاريخي, والسكني, والترفيهي. وعلي الرغم من الزيادة السكانية الرهيبة التي ابتلينا بها, وعلي الرغم من أننا نعاني من انعدام الخصوصية في أدق تفاصيل حياتنا اليومية بسبب نقص الفراغات, وعلي الرغم من شكوانا الدائمة من كثرة أعبائنا ومسئولياتنا, وأنه لا وقت لدينا للراحة أو الاجازة أو حتي العمل, فإننا نعيش منذ سنوات في فراغ مرعب. يسميه البعض أحيانا غياب المشروع القومي, ويطلق عليه آخرون انهيار القيم والمبادئ, ويدلعه فريق ثالث بأنه انهيار أو تآكل الطبقة الوسطي, ويفضل آخرون أن يسموه هجمة وهابية شرسة أو احتلال إمبريالي مرعب أو تطفل غربي متحذلق, لكنه يبقي في النهاية حالة من الفراغ المرعب نحاول بين وقت وآخر, وكل حسب اهتماماته وأهوائه, وعقد نقصه وبؤر كبريائه, أن يملأه بطريقته الخاصة التي ترضيه. فتارة يري أن الحل هو أن يدمن المخدرات, وتارة أخري يلجأ إلي عباءة الدين, وثالثة يتعلق بأحبال العشق والغرام, أو الكراهية والانتقام, وربما يري الهرب من البلد برمته الحل الأمثل, أو التلطع علي القهاوي والنواصي البديل الأنسب. لكن يظل الفراغ موجودا وآخذا في الاتساع. ورغم أنه قد يبدو سؤالا فلسفيا بحتا, لكنه واقعي تماما. لماذا تعيش؟! سؤال أوجهه إلي نفسي كثيرا علني أجدد في طريقة حياتي وعلاقاتي مع المحيطين, وأوجهه إلي الآخرين أحيانا علني أستفيد من أفكارهم أو أفيد بمجرد فتح باب التفكير. أعيش لأن ربنا عايز كده! أو علشان أتجوز وأجيب عيال وأربيهم كويس! أو علشان أستمتع شوية وبعدين أبدأ أتحمل المسئولية أو والله مافكرتش في الموضوع ده قبل كده أو دي غيبيات لا أتدخل فيها علشان حرام أو أدينا عايشين وخلاص أو عايش علشان أثبت ذاتي أو عايش علشان أشتغل أو عايش علشان ولادي أو علشان أخدم أمي وغيرها. ورغم أنني لا أري كل هذه الأسباب كافية للرد علي السؤال, إلا أنني أعترف كذلك بأنني مازلت في حالة بحث عن أسباب أو معان أخري أوسع وأكثر رحابة للحياة. والحقيقة أنني أعتقد أن جانبا كبيرا من لذة الحياة هو أن نستمر في عملية البحث عن معان لحياتنا, وألا نعتقد أننا وصلنا لمعني بعينه أو غاية دون غيرها, ففي هذه الحالة سنبدأ في الدخول في مرحلة الفراغ. وأغلب الظن أننا سنبدأ في التعبير عن فراغنا ذلك بالتشبث بالتفاهات التي لا تفيدنا أو تفيد الآخرين, بل هي تلحق بنا وبهم أكبر الضرر, ليس فقط لأنها تافهة, ولكن لأنها تدفعهم دفعا إلي الابتعاد عن البحث المستمر عن معان للحياة. وأعود من حيث بدأت! هل يستفيد الاسلام استفادة قصوي من اعتناق شخص غير مسلم له؟ وهل تخسر الديانة التي تركها( أو الاتجاه الذي كان يؤمن به) من انشقاقه هذا؟ وهل تزداد المسيحية قوة باعتناق مسلم لها وتخليه عن دينه الذي ولد عليه؟ أغلب الظن أن الفائدة الوحيدة في الحالتين هي أن الضعفاء من هذا الدين أو ذلك سيشعرون بالزهو والنصر علي الفريق الآخر, وسيقفون ويخرجون ألسنتهم لهم, ويقولون لهم: أكلناكوا العدس! أكلناكو العدس! إنه الفراغ! فراغ التمريض فراغ من نوع آخر ولكنه يمكن أن يكون فراغا قاتلا, هو فراغ الإهمال والتراخي والتجاهل الذي أدي بمهنة التمريض في مصر إلي ما آلت إليه من مأساة تتحدث عن نفسها في كل يوم وفي كل دقيقة في مستشفيات المحروسة. قبل أيام دعيت لحضور إطلاق تقرير مهم عن وضع التمريض في مصر, وهو تقرير أعده كل من المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية و أولاد الأرض لحقوق الانسان وجمعية التنمية الصحية والبيئية و مؤسسة المرأة الجديدة بدعم من مؤسسة نوفيب أوكسفام الهولندية. والحقيقة أن ذكر كلمة تمريض في أي جملة مفيدة كفيل بجذب انتباهي لأسباب عدة, بعضها شخصي والبعض الآخر يتعلق بوضع المهنة عموما في مصر. فقبل سنوات قليلة, تعرضت والدتي لوعكة صحية شديدة استدعت دخولها مستشفي يتمتع بسمعة طيبة جدا و برستيج عال جدا جدا. مكثت والدتي في المستشفي نحو أسبوع, وكنت ملازمة لها طيلة فترة إقامتها. هذه الأيام السبعة كانت كفيلة بأن أكتب موسوعة عن التمريض في مصر, ولكنها كانت ستكون موسوعة هزلية سوداء. إهمال, وقذارة, وقلة أوبالأحري انعدام.. ضمير, وتراخ في العمل, وطناش لا أول له أو آخر, ومعاملة مزرية للمرضي, ولائحة طويلة جدا من الصفات والسمات التي من شأنها أن تقضي علي أي مريض شاءت الأقدار ألا يكون معه مرافق طيلة فترة الاقامة. فمثلا علي سبيل المثال لا الحصر, فوجئت ذات ليلة بالممرضة تدخل الغرفة ومعها في يدها كبشة أدوية. ولاحظت أن ألوان الأقراض تختلف عن الأقراص التي دأبت والدتي علي تناولها. وحين استدعينا الممرضة, التي تلقي بالأدوية علي الطاولة وتهرع إلي الخارج دون أن تتأكد أن المريض تناولها أو رماها, أو لعب بها طاولة وسألناها إن كان الطبيب المعالج قد غير العلاج, نظرت إلي الأدوية, وقالت وهي تضحك: آه! دي يظهر أدوية الأستاذ حسين في الغرفة المجاورة! ماحصلش حاجة! ولأننا كنا قد استنفدنا جهدنا وأعصابنا علي مر الأيام في الشكوي والجدل لأسباب لاحصر لها, فقد التزمنا الصمت, ودعونا أن يخرجنا منها الله علي خير. ولكني في الوقت نفسه, شعرت بأسي شديد تجاه من تضطرهم الظروف إلي تلقي العلاج في مستشفيات مجانية أو شبه مجانية, وما يعنيه ذلك من تدني مستوي المعاملة والنظافة والتمريض بشكل أكبر بكثير. ولأنني علي يقين تام بأن أي تقصير في عمل يعود في المقام الأول والأخير إلي أزمات الضمير المتلاحقة التي نعانيها, ولأنني لا أقبل أن يكون تدني راتب أو صعوبة مواصلات أو أزمة سكن سببا في أن يقصر أحدنا في عمله, لا سيما إذا كان متعلقا بحياة آخرين, فقد تصورت أن يتناول التقرير ضمن ما يتناوله السبل المقترحة لإعادة زرع الضمير لدي كل من يعمل في هذه المهنة وقرر التخلي عن ضميره, وذلك جنبا إلي جنب مع بقية مشكلات المهنة, وهي كثيرة. التقرير صدر تحت عنوان طويل جدا ومثير جدا جدا هو وسط تصاعد كفاحهن.. الممرضات.. بين السخرة والنظرة الدونية. نظرة سريعة إلي محتوي التقرير أكدت لي أنه لا يحوي إلا توثيقا لحركات الممرضات الاعتصامية والاحتجاجية في الفترة الأخيرة, وجميعها يدور في فلك تدني الحوافز والأجور والأجور والبدلات وغيرها, بالاضافة إلي أزمة الممرضات المنقبات. لم أجد كلمة واحدة تشير من قريب أو بعيد إلي تصرفات الكثير من الممرضات والتي لا تمت بصلة إلي أي من قيم الرحمة والتعاطف التي علمونا زمان أنها جزء لا يتجزأ من هذه المهنة العظيمة. والحق يقال إن أوضاع الممرضات المادية في مصر سيئة للغاية, لكن الأسوأ منها هو إهمال بعضهن وتقصيرهن اللذان لا يمكن أن يشفع لهما ضيق ذات يد. بالطبع هناك كثيرات ممن يراعين الله وضمائرهن في عملهن, لكن هناك كذلك كثيرات جدا ممن تسببن في أن يهرب من يقدر علي العلاج في الخارج خوفا من أن يقع تحت رحمتهن, أو بالأحري قلة رحمتهن, أما من لا يملك رفاهية الهرب العلاجي, فإنه يتبع إحدهي طريقتين: التهديد والوعيد لمن يملك الصلات والوساطات, فكلما أخطأت أو قصرت إحداهن يشكوها لمدير المستشفي مستخدما علاقته أو قرابته لفلان بيه أو علان باشا. أو أنه يتبع أسلوب الذل والمهانة, فيستعطفها أن ترأف به, وكأنها تسدي له معروفا. أضم صوتي لكل من يطالب بتحسين أوضاع الممرضات المادية, وظروف عملهن, لكنني أصرخ مطالبة بأن يراعين الله في عملهن. وأصرخ بأن يخصص المشايخ والأئمة جانبا من أحاديثهم وخطبهم عن أهمية مراعاة الضمير, ولا مانع من توجيه الحديث بأبناء وبنات هذه المهنة وغيرها من المهن التي نعلم جميعا تمام العلم أن الغلطة فيها بجون. صحيح أن جميع الأخطاء المقصودة في جميع المهن ليس لها ما يبررها, ولكن علي الأقل علينا أن نبذل كل ما يمكن بذله لانقاذ ما يمكن إنقاذه. تجاهل مشكلات التمريض, أو عدم الاهتمام بها بالقدر الكافي من قبل المسئولين, علي أساس أن الغالبية العظمي منهم يتلقون العلاج في الخارج, أو علي الأقل لديهما هذه الرفاهية يجب أن يتوقف, لأن فراغ التخطيط وفراغ الاهتمام في مهنة كالتمريض هو فراغ قاتل.