الأديان في حقيقتها الصافية النقية جاءت لتقرير كرامة وحرية الإنسان وتثبيتهما كمقدس وحيد أوحد في هذه الدنيا، ولا كرامة للإنسان ولا حرية إلا وفق الخط الرباني المرسوم له، من دون إغراء أو إغواء أو قهر أو كبت أو إكراه، فالأديان ألقت علي كاهل (الإنسان) مسئوليات جسام، منها: بث قيم الإنسانية العليا وتثبيتها كمرجعية وحيدة تركن إليها الدنيا، دون مقابل من مصلحة أو منفعة، وإلا أصبحت قيما أنانية عنصرية، وألزمته بتحصيل العلم، والمعرفة، ونشر الإصلاح، والتعارف، والحرية المسئولة، من دون رقابة أو وصاية أو رصد من أحد سوي بصيرته ونسبه الآدمي السامي إذا عمل علي رقيه وسموه. الأديان جاءت لترفع عن الإنسان ما يثقل كاهله، جاءت لكسر كل قيد وكل ربقة تشده إلي الأرض، إلي الأنانية، إلي الطمع، إلي الأنا، إلي السقوط من علياء الإنسانية. الأديان جاءت للأخذ بيد الإنسان نحو السمو الإنساني خطوة خطوة، نحو المعرفة خطوة خطوة، للأخذ بيده نحو تكريم نفسه وبني جنسه خطوة خطوة، للأخذ بيده نحو الانطلاق والكشف والتخليق. الأديان في حقيقتها جعلت من الإنسان - أي إنسان - مرجعية وحيدة للدنيا والدين والسياسة والاقتصاد والفكر والمصلحة والحقوق، وجعلت حقه مقدماً علي حقوق جميع الكائنات، بل حقه مقدم علي حق الله إن اهتدي بهداه وسار في ظلاله، لقد أكبرت الأديان من شأن الإنسان، فجعلته أكبر من أن يخضع أو يذل أو يدين لقطعة من الحجر أو الشجر، أكبر من أن يخضع لقطعة من الأرض، الإنسان أكبر من أن يخضع لإله تصوره وصنعه له إنسان مثله يفرضه عليه ويأمره باتباعه والخضوع له، أكبر من أن يخضع لحزب أو طائفة أو قبيلة أو عصبية أو عرق، أكبر من أن يخضع لأناس قد ضمتهم القبور منذ أزمان سحيقة، أكبر من أن يخضع لبضع أفكار أو نظريات أو تخرصات أو ظنون من صنع بشر مثله يلزمونه بها إما إغراءً أو إكراهاً أو إغواء، دون اختيار منه أو إرادة، يقودونه لها كالدابة ويقيدونه بها ويربطونه إليها حتي لا يري سواها ولا يلتفت لغيرها. إن البشرية حين خرجت من ظلال الله انقسموا إلي فريقين، فريق آمن بالله وكفر بالإنسان، فقاموا يتقمصون الله حسب الهوي، فلبسوا ثوبه، وتحدثوا باسمه، ونابوا في الناس عنه، استضعفوه ليستقووا هم، أخفوه ليظهروا هم، أفقروه ليغتنوا هم، قيدوه ليتحكموا هم. وفريق كفروا بالله وما آمنوا بشيء، تبرؤا من الله وتعروا منه، واتخذوه وراءهم ظهريا، ونهوا ونأوا عنه، وقطعوا كل طريق توصل إليه، وأوصدوا جميع الأبواب عليه، ليصدوا الناس عن سبيله، وظنوا واهمين أنهم قد استغنوا عنه، وأن لا حاجة لهم به، وأن الأمر لهم من دونه، وأنهم أُريد بهم شرا، وأنهم سيعجزونه هربا. فخرج الملأ الذين استكبروا وطغوا وأفسدوا من الفريقين من ظلال الله وأخرجوا قطعان الناس معهم إلي رمضاء النفس والهوي والشيطان والطغيان والفرقة والضلال والحرمان، فضلت القطعان بين الفريقين وطغوا وزاغوا، وهكذا ظلت القطعان تمشي نحو المجهول في طريق صائف طويل لا ظل فيه ولا ماء، مثقلون بالجوع والفقر والعوز والحرمان، مثقلون بالآلام، ينظرون إلي الملأ من بني جنسهم قد امتلئوا بكل شيء واستحوذوا علي كل شيء، علي كنوز الأرض وظلال السماء. فما لم تستيقظ القطعان من مرقدها الذي أرقدتها فيه الشياطين، وما لم تكسر قيدها، وما لم تبصر حقيقة وجودها ومنتهاها، وما لم تعد إلي ظلال الله مادة يدها إليه مرة أخري، صالحة مصلحة آخذة بيد الناس إلي حيث يجب أن يكون الإنسان، فلا أمل حينئذ في العثور علي الإنسانية ولا أمل حينئذ في الرقي إلي سمو الآدمية، وهنيئا للبشرية بحياة الغابة، وعبثا يفعل من يبحث عن حل في غير الإنسان.