تبدأ قيود حرية التعبير معي بمجرد اصطدامي بالورقة البيضاء، وحيرتي أمامها، فللورقة البيضاء شروط تحب أن تمليها، وهي في الآن ذاته تتمنع وتمانع قبل أن تستجيب لبعض شروطي، إن العلاقة معها علاقة صعبة محفوفة دائماً بما يحيط اللغة من انتصارات أحياناً، من تراجعات أحيانا، من عجز أحياناً، من هزائم أحياناً،ولابد أنني كشاعر تائه علي أرصفة شعري، لابد ألا أستطيع احتراف ذلك التكيف المفروض قيامه بيني وبين الورقة البيضاء، كل مرة أشعر بالخسارة والفقد. كل مرة أحس أنني سأعيد الحرب مع الورقة البيضاء علي أمل أن أتقدم إلي أراض جديدة، أن أكسب معركة جديدة، لابد أن هناك أعداء آخرين، لابد أنني في أثناء ذلك أحس قيداً آخر، رقيباً آخر يطل برأسه من داخلي، فلقد انكتب علي المبدع وفي منطقة مظلمة أن يتخيل جمهور قرائه، يتخيل سماتهم وثقافاتهم وميولهم، ويشعر بضرورة أن يحاربهم، ولو برفق، ولو بحنان، يحاربهم وهو يحسب أن اللغة ليست كل العالم، أن العالم لا يمكن أن يكون لغة فقط، إن اللغة في الشعر لن تكون محض أداة، إنها آلة، وهناك فارق بين الأداة والآلة يشبه الفارق بين النظارات والعين، الأداة جزء خارج عن الجسم، جزء مضاف، والآلة جزء من الجسم، جزء أصيل، النظارات أداة الرؤية، ولكن العين آلة الرؤية والرؤيا، في الشعر اللغة آلة، وحتي يتحقق هذا اصطدم الشاعر بكثير من المتعارف عليه، بكثير مما يريد أن يزيحه. كيف يمكنني كشاعر أن أصل في علاقتي بالقارئ إلي أوجها، وأنا أعتمد علي الحد الأدني من الاتفاقات الضمنية، هناك شبكات من الاتفاقات الضمنية بين الشاعر والقارئ، كلما اتسعت زادت مساحة المشترك العام وقلت مساحة الوجود الفردي، الوجود الضروري، المعركة بين المشترك العام الذي يبدو كرقيب خفي تجري في حقل اللغة أساساً، وفي حقل الرؤيا ضمناً. ولأننا جميعا، ولأنني أيضا لا أجهل طبيعة التخلف والركود اللذين نعانيهما، أفكر كثيرا في كيفية أن أكون نفسي، أن أكون أنا بحروفها الثلاثة، لا أن أكون نحن بحروفها اللانهائية العدد، أفكر في كيفية ألا أرتكب الخيانة الكبري، في كيفية ألا أفقد رائحة المكان بسقوطه وانحطاطه، بضيقه وسخونته، نظن كثيرا، خاصة الآن، أي هذه الأيام، وخاصة هنا أي في أماكن اللغة العربية وثقافتها، نظن كثيرا أن الإسلام أحد ثوابتنا الثقافية، بل ربما أهم ثوابتنا الثقافية. ويظن الغرب عنا سواء الآن وهنا أو الأمس وهنا، أن الإسلام هو أهم ثوابتنا الثقافية، ولأننا في مأزق طويل العمر وطويل القامة، مأزق ناتج عن فشلنا في مواجهة تحديات الرأسمالية العالمية، في طور عولمتها، فإننا نستدعي هويتنا، ونحاول أن نستعين بها، الأمم في حال الازدهار لا تتذكر كثيرا هوياتها، إنها تغير جلدها بيسر، تقوم بعمليات الانسلاخ دون خوف أو وجل، ولكنها عندما تكون في قلب المأزق، في حمأته، فهي تنكفئ علي الهوية، بإرادتها تجعل من الماضي سيداً علي الحاضر، عربة الحاضر المجهزة لأن تعتمد علي موتور لتسييرها، يجرها حصان الماضي، وحصان الماضي لا يمشي إلا في الطرق التي يعرفها، وهي طرق مليئة بأشواك القيم والتقاليد والأخلاق القديمة، وفي لحظة الأزمة ، تبدأ مع استدعاء الهوية، سيطرة قيم الماضي واستبدادها. ولأن الماضي الثابت ثقافيا كما يظن البعض، مسكون بالدين أولاً، فإن الإبداع كثيرا ما يصطدم بهذه القيم، ليس من المهم كثيرا رقابة أجهزة الدولة، لأنك قد تتحايل عليها، ولكن الأكثر أهمية هو رقابة الناس خارج الأجهزة، ناس الندوات والمجلات الادبية والمقاهي، ولأن الأدب في أطواره الأخيرة بدأ يلفظ تماما ويتخلي عن بعض آليات المكر التي كان يعرفها، آليات المكر للتحايل علي الرقابة. لم يعد الأدب يقبل أن يتستر وراء قناع، سقطت تماماً آلية القناع القادم من الماضي ليصب في الحاضر، سقطت آلية الرمز، لم يعد الأدب يحب أن يقف وراء شرفة زجاجية مغلقة ليري المطر، ويتحدث عنه، أصبح يحب أكثر أن يقف تحت المطر مباشرة، إن سيادة آليات السرد، الحكائي والسيري، سيادة تحيل إلي الكتابة عن الآن وهنا، سيادة تحوّل مسار المجاز من صفته الاحتيالية إلي صفته الذاتية والمباشرة، وما يجعل المأزق أسود وكئيباً هو الصراع الجاري بين تيارين رئيسين، بعض أجهزة الدولة وحركات الإسلام أصولية أو سلفية، وقد أوقع عدد ليس قليلا من المثقفين، أوقعوا أنفسهم في أحابيل الانحياز إلي الطرف الغالب باعتبار أنهم لابد أن يشاركوا النظام حربه ضد حركات الظلام بدلاً من أن يتخذوا موقفا نقديا من الاثنين. هل التناقض بين التيارين هو تناقض جذري أم ثانوي، قد تكون أجهزة الدولة غير راغبة في القضاء التام علي الحركات الأصولية، قد تكون راغبة في استيعابها، ولذا تناورها، وتصارعها بادعائها امتلاك المفهوم الصحيح للدين. إنه صراع علي السلطة تبدو فيه أجهزة الدولة وكأنها تتمتع بهامش أكبر من الحقوق المدنية، وأنها متقدمة كثيرا حتي علي أفراد شعبها، هذا الهامش الذي تفتقده الحركات الإسلامية بحكم أنها خارج السلطة، وأنها ستملكه إذا ملكت، ربما بدرجات أقل، الاثنان أجهزة الدولة والحركات الإسلامية كلاهما قد يتصور عموم البشر وكأنهم كتلة عمياء، يطمح إلي اجتذابها إلي جانبه، كلاهما يريد أن يلعب بورقة الدين، إلا أن هذه الورقة تظهر في يد النظام كورقة ناقصة بحكم فساد البعض، وتظهر في يد الحركات الإسلامية غير مجربة، هذا الصراع المحموم ينعكس علي حرية المبدع، وعلي حريتي، سأفكر كثيرا في أرض ثالثة، قد تكون أرض جموع المثقفين، وهي نخبوية من جهة، كما أن المثقفين غير منسجمين وغير ممثلين في تنظيمات مستقلة. من جهة أخري، ويعانون من مهانات التشرذم والنفي والصراع الداخلي، بين جماعات المثقفين من ارتبطت مصالحه بمراكز النشر الخليجية في مواجهة سوء الأوضاع الاقتصادية، فصاروا رقباء إضافيين، وبين جماعات المثقفين من يظن أن كل مخالفة، كل خروج، كل طيش فني ما هو إلا دعوة للانتشار والظهور، اتهمت هذه الجماعات طه حسين والعقاد والمازني وعلي عبد الرازق ونصر حامد أبو زيد بتلك التهمة، وستتهم بها كل من يحاول الخروج أو توسيع الإطار الاجتماعي للمعرفة أو خرقه، وسط هذه الأحراش. كيف تصنع عالمك علي الورقة البيضاء، كريهة هي أفعال التفضيل وكريهة أيضا ألف لام التعريف، لأن الألف لام مسئولة دائماً عن صناعة نموذج، عن صناعة معيار تقيس عليه، عندما تقول الحياة أو الشعر أو المرأة فأنت تصنع نموذجاً هو الأمثل والأرقي، حاول أن تقولها هكذا، حياة، شعر، امرأة، ستجد أن أبوابا للتعدد قد انفتحت، وأنك بدأت في إنشاء المدينة، فالمدينة لا تتحقق تماما إلا عبر تعدد المراكز المعرفية، أما سيادة مركز معرفي واحد فهو شرط غيابها، شرط غياب روحها، فكر أن تقولها هكذا، دولة، نظام، إسلام، هل يمكن لنا أن ندعو الشعراء لممارسة كرة القدم، حتي يتعلموا كيف يكونون أفراداً ضمن فريق. لا شك أن انحسار سوق الشعر وعدم رواج توزيعه يلعب دوراً في نقل الصراع بين الشعراء، من سوق النشر، ومن أوساط الجمهور، إلي الصراع بينهم كأشخاص، ولا شك أن انطفاء أهمية الشاعر الذي يحرك الجماهير ضمن قضايا عامة أو في اتجاه قضايا عامة وطنية أو تثويرية، نقل الصراع من أرض الجمهور إلي أرض الشعراء أنفسهم، هذا الصراع يعمل بسرية في الهامش الرقابي المخزون داخل الشاعر، كيف نواجه كل هذا دون الهرب من أنفسنا، كيف نواجهه ونحن نعلمه. لا أخجل حين أعترف أنني، أحيانا، بل كثيرا، ما أشعر بالخوف، ولذلك فأنا أرجئ فاعلية الرقابة أو الكثير منها، إلي مرحلة ما بعد الكتابة، إنني بشكل ما، شكل ليس مثاليا، أفرق بين فعل الكتابة وفعل النشر، وأترك لفعل الكتابة حقه في اللعب والرقص والفرح، إنني أكتب لكي أكون من الفرحين، وأنشر ما أكتبه لكي أكون عضوا في خلية بشرية كبيرة، خلية أكبر مني، النشر فعل يحجب الكثير من كتاباتي، أي أن النشر يقلل من حقوق عضويتي البشرية، ما أخشي أن أفقده هو تلك اللحظات التي أكون فيها من الفرحين، إنني أتشبث بها، وأحاول أن أنظفها دائماً من أقدام الرقيب الداخلي، أراه يتحرك حافياً فوق ورقتي البيضاء، وأصارعه، هو يملك الأسباب التي عرضت، وأنا أملك رغبتي في أن أكون من الفرحين، ونتبادل كثيرا من الانتصارات والهزائم، ولكنني أخذله عندما ينتصر علي، آخذ له بأن أدمّر ما كتبته.