مللت حر القاهرة . لم أتعود البقاء فيها في الصيف. انشغلت كثيرا حتي وجدت الفرصة للهرب إلي الإسكندرية. في بداية الطريق لاحظت أن العجلة الأمامية اليمني للسيارة تحتاج إلي هواء. دخلت إحدي المحطات وقمت بتغييرها وإصلاحها. استغرق هذا حوالي الساعة. كان العامل يتحرك ببطئ وفي ملل، وكان واضحا أثر الحر عليه. خرجت أصلا من البيت في الساعة السادسة لأنعم بالنور في الطريق ساعتين علي الأقل خاصة أنني أعرف أن الطريق الصحراوي مظلم كله منذ أكثر من ثلاثة أعوام. كان قبل ذلك مظلما في نصفه من ناحية الإسكندرية . وكتبت وقتها للسيد وزير النقل. هنا علي هذه الصفحة، أرجوه إنارة الطريق لكثرة الحوادث الليلية. وبعد المقال قلت لنفسي لقد نبهتهم إلي النور في الطريق وكانوا غافلين، وباعتبار أن تنظيم الأسرة هو الذي يدير البلاد، فطبيعي جدا أن يقوموا بإظلامه كله بعد المقال وتستمر الحوادث. أعود الي هذه الرحلة .كان ملل عامل الكاويتش سببا في إضاعة ساعة من ضوء النهار الأخير. قلت قدر الله وما شاء فعل. وملل العامل في محله فالحر غير عادي، غادرت بوابة الخروج من القاهرة في الساعة السابعة مساء. اذن أستطيع أن أقطع نصف المسافة في النور. وبالفعل بعد استراحة قصيرة في كافيتريا ماستر، أظلمت الدنيا، فمشيت بالسيارة علي مهل. وتقريبا لا أغادر الحارة الوسطي. لأنه من اليمين واليسار تأتي أحيانا فجأة سيارات نصف نقل مسرعة لا تراعي المسرعين علي الطريق ،وتقع الحوادث.. وكالعادة في مثل هذه الحالات تتخطاني السيارات المسرعة بجنون، وأحيانا تتخطاني سيارتان في وقت واحد. أدركت أنني مصدر ملل لقادة السيارات الأخري. ويحدث ذلك لي دائما حين أمشي بالليل. اسرعت. تجاوزت السرعة قرب الاسكندرية وقبل بوابتها مباشرة تم إيقافي، لأن الرادار الليلي قد صورني وسرعتي 125 كيلومتراً في الساعة.. كانت هناك سيارات قليلة لا تساوي شيئا في عددها قياسا علي السيارات التي سبقتني مما أثار دهشتي. دفعت الغرامة ساكتا ولاحظت كما حدث لي من قبل، منذ حوالي نصف عام، أن هناك من لايدفع. يأتي الي الضابط ويهمس فيمشي، ويومها سألت عن سبب هذا الإعفاء فقال لي الصول، إن الشرطة والجيش والقضاة والدبلوماسيين معفون من غرامة السرعة، ويومها نهره الضابط، وأنا لم أصدق أن الحكومة تفرط في حياة هذه الفئات الأربع. هذه المرة أيضا تقدم شاب وهمس للضابط ومشي، وكان هناك ضابط كبير برتبة أكبر فصدقت ما سمعت من قبل، لأن الضابط لن يفعل ذلك في وجود رتبة كبيرة، إلا إذا كان صحيحا ،لكن الفنان الشاب عبده البرماوي صحح لي المعلومة علي الفيس بوك. وقال إن القانون يعفي فقط الدبلوماسيين والقضاة من المخالفة المباشرة لحساسية مهنتهم، لكن لا يعفيهم من محضر ثم غرامة فيما بعد عند تجديد الرخصة، وإذا حدث غير ذلك فيكون تصرفاً خاصاً بالحملة لا القانون. والحقيقة انني لم أهتم أن أعرف القانون. لقد حاولت كسر ملل الطريق المظلم فقط وملل السائقين من بطء قيادتي فدفعت مائة وخمسين جنيهاً وكان الأفضل ألا أشعر بملل يخصني أو يخص أحدا غيري فلم ينفعني أحد، لا الذين أوسعت لهم الطريق ولا وفرت وقتا ،فلقد ضاع ما وفرته في الوقوف لتحرير المخالفة، ولم يضايقني ألا يدفع غيري، أو ألا تحرر له المخالفة علي الورق. وصلت الي شقتي الصغيرة بسيدي كرير وما ان دخلت واشعلت النور حتي انفجرت اللمبات كلها. اندهشت. لم أنتبه إلي أن الكهرباء عالية أكثر من الطبيعي. من ينتبه إلي ذلك؟ اشعلت التليفزيون فانبعث منه دخان كثيف واحترق ،وسمعت شخصا يمشي في الظلام يقول أطفأوا الاجهزة الضغط عال! أدركت السبب ،وجلست في الظلام لساعتين حضر فيها عمال من شركة الكهرباء ولا اعرف ماذا فعلوا في محول الكهرباء الكبير بالمنطقة، ومشي نفس الشخص يقول إن الكهرباء مناسبة وأشعلوا المصابيح واستخدموا الأجهزة .قلت في نفسي حياك الله!. لم يعد هناك شيء يمكن إنقاذه. وأمضيت الليل في ملل حتي الصباح لإصلاح كل شيء. 2- قبل السفر كنت أشعر بملل كبير يأتيني من متابعة المواقع الثقافية علي الإنترنت وبعض الصفحات الثقافية، فدائما لا أجد أمامي قضية فكرية واحدة، لكن أخبارا من نوع الأمن يمنع ندوة هنا أو هناك، الأتيليه يمنع ندوة عن فلان. الكاتب أو الناقد فلان يتهم فلان بالعمالة والكاتب فلان يتهم رئيس جمعية كذا بالتبديد في أموالها والكاتب فلان يقول إن المسيحيين مدينون لعمرو بن العاص والمحامي فلان يرفع قضية علي الكاتب الذي قال ذلك والقس فلان يتهم الكاتب بالكفر والكاتب يرفع قضيه علي القس فلان ويقول في حديثه إن الكنيسة تعلم الاطفال الإرهاب والطائفية ولا أعرف كيف عرف ذلك. هو لا يقول.. والشيخ فلان يرفع قضية علي الشاعر والناقد فلان وفلان يرفع قضية تعويض علي الشيخ الذي سبق أن رفع قضية تعويض، ومحامون يرفعون قضية لمنع كتاب وقارئ يفعل ذلك والأطباء يطالبون بوقف مسلسل، والمدرسون يحتجون علي صورة المدرس في فيلم ومحاولة للصلح من أهل الخير بين الكاتب والشيخ أو بين الكاتب والقس أو بين الكاتب ورئيس الجمعية وأبحث بين ذلك كله عن كلام في العلم فلا أجد وفي الفن فلا اجد وفي الفكر فلا أجد. والجميع يستخدمون عبارات جامعة مانعة في وصف بعضهم البعض، ولا فرصة للنقاش أو تقبل الرأي الآخر والحقيقة لا يوجد رأي آخر بل شتائم. فرجل مفكر كبير مثل نصر حامد أبوزيد لم ينل في حياته من الشتائم ما ناله بعد وفاته والعياذ بالله. وكاتب فتح الله عليه يسأله شاب في حوار هل صحيح أن أم عمرو بن العاص كانت من ذوي الرايات الحمر، فيقول في الحوار وأيه يعني ما ستنا مريم قال عليها اليهود كده، وطبعا لا علاقة بين السؤال والإجابة، فتقوم قومة الأخوة الأقباط وتنشغل الحياة الثقافية بالقضايا في المحاكم وهكذا. للأسف متابعتي لكثير من المواقع علي الإنترنت جعلتني أفكر أن المثقفين والعلماء ليسوا إلا مجموعة سمكرية يدقون صاج العربة طول النهار. لكن لا تعود العربة كما كانت أبدا. يا أصحاب المواقع الافتراضية الرحمة اعطوا القضايا الثقافية الحقيقية حقها ويا أصحاب الصفحات الثقافية لا تنشروا ما هو عيب وشخصي في الأحاديث لأن القضايا الحقيقية تضيع في هذا الزحام الغث الذي يبعث علي الملل.