ليس أسوأ من الإقامة فى القاهرة إلا محاولة الفرار منها. هذا ما تعلمته خلال ثلاثين عاماً من المحاولات الفاشلة للتأقلم مع القاهرة منذ دخلتها طالباً فى كلية الإعلام؛ لأن نداهة الصحافة ندهتنى. وهذا ألم آخر؛ فلم يعد أمامى سوى محاولة العيش فى القاهرة بأقل الأضرار النفسية الممكنة، لأن الصحافة مهنة لا توجد إلا فى هذه الخبيصة العمرانية، المسماة مدينة، والتى تحتشد بمواكب فاشلين تغلق الشوارع من أجل عبورهم، ويتسببون فى تحديد إقامة مواطنين أكفأ منهم فوق الكبارى وفى الأنفاق. لكن هذا التغول مبرر فى عرفهم، لأنهم يريدون اللحاق بميكروفون يتحدثون فيه عن المواطنة والمساواة! وإذا تضرر مواطن من القسمة الضيزى، أو هفَّه الشوق إلى نسمة هواء نظيفة خارج القاهرة، وقرر النزول يوماً أو بعض يوم عن خازوقها، فإنه يلقى على مداخلها عذاباً يفوق عذاب الإقامة. كتبت مراراً عن المرور فى القاهرة، المدينة الوحيدة فى العالم التى يستيقظ سكانها فلا يجدون الشارع الذى ساروا فيه بالأمس، ورأيت من المريع أن يصدر قانون مرور يتضمن الكثير من بنود الحبس، ومنها السير عكس الاتجاه، الذى قد يرتكبه مواطن، لأن تغيير اتجاه الشارع تم فى نصف الساعة الذى نامه وقت القيلولة. واليوم، أكتب وبقلبى من الغيظ ما يكفى لإحراق مدينة، مقفياً على ما كتبه الشاعر محمد بغدادى، أمس الأول الأحد على هذه الصفحة بعنوان «الموت للفقراء خميس وجمعة» عن قرار تحويل مرور النقل يومى الخميس والجمعة من طريق مصر الإسكندرية الصحراوى إلى الزراعى، والفوضى والعذاب الناتجين عنه، لإخلاء طريق الكبار إلى المنتجعات الساحلية فى عطلة نهاية الأسبوع. كانت «المصرى اليوم» فى السوق، مساء السبت، ولم تكن لدىّ فرصة للاطلاع عليها، لكى يخفف مقال بغدادى آلام الحصار على نفسى فى طريق الإسماعيلية الصحراوى. لا يشبه ذلك الحصار فى ثقله وكابوسيته إلا روايات فرانز كافكا. وقد أصبح واضحاً أن سوء حال المرور لا ينتمى إلى حالات الفشل العادى القائمة على قلة كفاءة الإدارة وغباوتها، ولكنه ينتمى إلى الإذلال المتعمد للمواطنين، إذلال قائم على نزعة سادية تتطلب علاجاً نفسياً وسياسياً. صحيح أن المنحرف النفسى المركيز دو ساد (الذى ينسب إليه مرض التلذذ بآلام الآخرين) هو الخبير الأهم لدى الحكومة المصرية كلها، وصحيح أن عدواه قد تحورت، وظهرت بصور مختلفة فى كل إدارة، إلا أن لذة من يحمل السلاح تكون الأكثر كلفة وخطورة. وقد هربت من قسوة المركيز فى القاهرة، وطمعت فى أن أحصل على شمة هواء، وأن أضيف فصلاً إلى رواية جديدة أكتبها، واخترت الإسماعيلية، وهى البديل الثانى لمسقط رأسى بمنيا القمح، وكلاهما يؤدى إليه طريق للشعب الواقعى، المتروكة حياته وموته للمصادفة. وقد انتهت عطلة نهاية الأسبوع من دون شمة الهواء ومن دون كتابة ما أملت أن أكتبه، لأننى انشغلت بالدفاع عن أحد أفراد أسرتى ضد أحد وجوه المركيز فى الإسماعيلية، وهذه قضية أتركها لسلطات التحقيق فى الداخلية ومديرية أمن الإسماعيلية، لأعود إلى مركيز المرور. لم يكن هناك تحويل لمرور النقل؛ فمن حسن حظ الإسماعيلية الأنيقة أنها ليست مقصداً للمواطنين فوق العادة سكان الساحل الشمالى الذين يتأففون من التجاور مع الشعب الواقعى، حتى ولو على طريق. ومع ذلك كان الطريق إلى القاهرة مغلقاً ابتداء من مدينة العاشر من رمضان وحتى مدينة نصر. وقد عرفت بعد ذلك أن هذا الجحيم وضع يومى، ربما لم ألاحظه لأننى لم أتخير من قبل هذا التوقيت لمغادرة الإسماعيلية، حيث أحرص على بقاء أطول وقت فيها وأغادر عادة فى ساعة متأخرة من الليل. جنون أن تجد مسافة خمسين كيلو متراً متوقفة بالكامل، وتجد نفسك واحداً من رهائن هذه الحقبة من التاريخ، تتنفس العادم، ولك حرية الاختيار بين عوادم الميكروباص أو التريللات أو السيارات الخاصة، بلد ديمقراطى، أليس كذلك؟ ولأن الحاجة أم الاختراع والغضب أبوه، فقد خرجت إلى جانب الطريق، وفتحت أبواب سيارتى محاولاً النوم وسط الصحراء. كنت أرى الزاحفين بسياراتهم شبراً شبراً يضحكون من اختراعى، ولم تمر إلا عدة ساعات حتى أثمرت مبادرتى للسلام مع الذات، وأصبحت اتجاهاً فكرياً على الطريق. قلدنى آخرون، وصار هناك صف خارج المعركة، على مسافة من الصفوف الزاحفة، لكن الوضع لم يتغير، وبدأ الراقدون فوق الرمال، وأنا بينهم، الالتحاق بالركب الزاحف. عند ملاهى السندباد، كنت قد تأكدت من أننى هزلت وشخت وقل تركيزى وصبرى. ورأيت تريللا قادمة نحوى كقدر غشيم، بينما ورائى أخرى. كلاهما كان قد شاخ وقل تركيزه مثلى، وكلاهما يرى سيارتى العصفورة لكنه سيفعصها بكل ما فى قلبه من قهر. وقد تفاديت الأول بكل تسامح، لكننى لم أستطع الهروب من تعلق اكصدامى الخلفى فى أنياب التريللا التى ورائى. ونزلت ونزل قاتلى، وتعاونا فى محاولة حمل سيارتى لنقلها تقليلاً للخسائر. وبعد فض الاشتباك بين السيارتين حملت نصف الاكصدام المكسور وتحسست انبعاج الصاج. وبنبل الضحايا المشتركين للمركيز تصافحنا وعاد كل منا إلى عجلة القيادة، أو آلة العذاب. الطريق الذى يجب أن يستغرق ساعة ونصف الساعة، قطعته فى خمس ساعات ونصف، وقد خرجت تحت آخر شمس السبت ودخلت بيتى بعد منتصف الليل، أى فى بداية يوم الأحد، لأتأكد أن الفشل أخطر من الظلم. الظلم يختار ضحاياه، وقد يحدد للموت أياماً، لكن الفشل لا يستثنى أو يميز، بل يضع الجميع فى مستوطنة العذاب «القاهرة» طوال أيام الأسبوع، سواء أقاموا فيها أو حاولوا مغادرتها!