فيلم "أجورا" إنتاج إسباني مالطي مشترك، إخراج واحد من أفضل المخرجين الأوروبيين الجدد هو الإسباني التشيلي أليخاندرو أمينابار صاحب فيلم "الآخرون" الذي قامت ببطولته منذ عدة سنوات نيكول كيدمان وفيلم "البحر في الداخل" الذي حاز علي أوسكار أحسن فيلم أجنبي عام 2005، أمينابار من مواليد 1972 وشهرته كمخرج حائز علي جوائز عديدة داخل وخارج إسبانيا تؤكد حضوره علي قائمة أفضل المخرجين الشبان في العالم اليوم.. وصلت أرباح فيلم "أجورا" عشرة ملايين دولار في الأيام الأربعة الأولي علي عرضه في أكتوبر الماضي، ووصلت أرباحه بعد عدة أشهر من عرضه في إسبانيا وحدها أكثر من أربعين مليون دولار. عرض فيلم "أجورا" أو "الساحة" (إشارة إلي ساحة الرأي العام أو ساحة البرلمان اليوناني القديم) في حدود ضيقة في مصر، حيث رأي البعض أنه يسيء لتاريخ الكنيسة المصرية ورأي البعض الآخر أنه يضع الكتاب المقدس في مواجهة مع الفلسفة وينتصر للفلسفة ضد الإيمان المسيحي الذي يري الفيلم أنه لا يخلو من طموح سياسي لإثارة وتعبئة الجماهير.. عرض الفيلم أيضًا في كندا ولم تثر الكنيسة البروتستانتية أو الكنيسة الكاثوليكية، ولم يتم منع الفيلم، لأن المجتمع المدني هنا أقوي من السلطة الدينية ولأن المجتمع المدني قرر منذ عقود طويلة الحفاظ، قدر الإمكان، علي الحريات الثلاث الأساسية: حرية الفكر والتعبير والعقيدة.. أما في مصر فلا عجب أن تتحد السلطات الدينية المسلمة والمسيحية ضد الحريات رغم خلافاتها الجوهرية التي تصل أحياناً إلي حد الفتنة الطائفية.. والمنطق الذي يحكم هذا التحالف المشبوه هو منطق «أنا وأخويا علي ابن عمي وأنا وابن عمي علي الغريب». و"الغريب" اليوم هم البسطاء والعلمانيون، المتدينون في حدود السماحة ومراعاة الأخلاق العامة، والمطالبون بفصل الدولة عن الدين غرباء في ساحة السلطة الدينية. يحكي فيلم "أجورا" السنوات الأخيرة في حياة الفيلسوفة المصرية اليونانية "هيباتيا" التي عاشت في القرن الرابع الميلادي في الإسكندرية وكانت آخر راعيات مكتبة الإسكندرية القديمة وواحدة من أهم المشتغلات بالفلسفة والفلك والهندسة والحساب في التاريخ القديم.. المعروف أن واحدًا من أشهر الأساقفة المسيحيين في تاريخ الكنيسة السكندرية، الأنبا كيرولوس، كان أهم المحرضين علي قتلها وقد قدمه الفيلم باعتباره مناهضًا للامبراطورية الرومانية وكان لتعصبه الشديد للديانة المسيحية وجبروته كقائد روحي وعسكري الفضل الأكبر في انهيار الحكم الروماني في المدينة. قدم الفيلم الصراع بين "هيباتيا" وبين المتعصبين للديانة الجديدة باعتباره صراعًا علي سلطة الفكر.. الفيلسوفة تطالب بحرية الفكر والعقيدة وتدافع عن حق المسيحيين أنفسهم في حرية العقيدة ضد ممثلي السلطة السياسية الرومانية، وفي المقابل تنكر عليها الكنيسة وأسقفها وحماتها من أثرياء المدينة وفقرائها علي السواء الحق في التفكير والتعبير والعقيدة.. لقد رأي هؤلاء جميعًا في منهجها العقلاني وفي معرفتها العميقة بأصول الفلسفة اليونانية وفي شروحها لفلسفة أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس خطرًا يتهدد الإيمان بتعاليم المسيح المخلص والتسليم الحرفي بما جاء في الكتاب المقدس. الفيلم ينهي الصراع بين بطلته وبين الأسقف كيرولوس وأتباعه بجريمة شنعاء، اختار المخرج أن يوحي بها بدلاً من عرضها تفصيلا.. فلقد أشار المؤرخون المعاصرون لهيباتيا إلي أن جماعة من رجال الفصيل العسكري التابع للكنيسة ألقوا القبض عليها وقاموا بسلخها حية مستخدمين قطع الرخام والأصداف، ثم حملوا أشلاءها إلي موقع يسمي سينارون وهناك قاموا بإحراق ما تبقي من جثتها.. لكن الفيلم يوحي ببشاعة الجريمة دون تفصيل: بهزة رأس ونظرة توسل في عينيها، تشير "هيباتيا" لعبدها المعتوق الذي آمن بالمسيحية، تستعطفه بلا كلمات أن ينهي حياتها.. يدرك العبد رغبة سيدته، فيقوم بخنقها قبل أن يتكالب عليها المتعصبون بأحجارهم ليمزقوا جسدها، وكأن المخرج ينقذها من عذاب يصعب علي أحد اليوم أن يقبله أو يجد له تبريرا. يعرض فيلم "أجورا" نموذجين من نماذج المعرفة، الأول: قائم علي الاستنباط والبحث والتفكير، والثاني: قائم علي التسليم بالغيب والتبعية.. كما يعرض للصراع الأزلي بين المرأة والرجل، حيث يقف التمييز القائم علي النوع (ذكر وأنثي) عقبة في طريق "هيباتيا" علي مدار الفيلم، فكونها امرأة ومعلمة لديها تلاميذ ومريدون لم يكن أمرًا معتادًا في ذلك الوقت، واستغل الأسقف في الفيلم كونها امرأة ليدعي بقراءته للكتاب المقدس (الذي لم يكن العامة من البسطاء يستطيعون قراءته ناهيك عن تفسيره) أن المرأة لا يمكن أن تتساوي بالرجال ولا تملك حق التعبير. هكذا واجهت "هيباتيا" بعلمها وفصاحتها جماعتين تعصبتا ضدها لأسباب مختلفة، الأولي: اعتبرتها كافرة وأباحت قتلها لأنها تفكر وتحيا بعيدا عن قانون الإيمان المسيحي، والثانية: اعتبرتها أنثي وأباحت إذلالها، لأنها تتكلم وتناقش وتناقض الرجال الذين يظنون أن حقهم الطبيعي والشرعي الذي ورثوه عن آبائهم وأنبيائهم هو التفوق علي المرأة والتحكم في مصيرها. لهيباتيا في الفيلم صديقان، الأول هو "أورستس" الذي كان تلميذًا عاشقًا لها رفضت الزواج منه، لكنهما ظلا صديقين حميمين حتي بعد أن أصبح حاكمًا للإسكندرية.. والثاني هو "سنسيوس" وكان تلميذًا مسيحيا من تلاميذها، درس علي يديها فلسفة أفلاطون ثم أصبح بمرور الوقت أسقف مدينة طلميثة الليبية، جاء "سنسيوس" لزيارتها في الإسكندرية بعد أن زاد طغيان "كيرولوس" وتهدمت المكتبة ونهبت علي يد المتعصبين من أتباع المسيحية، وحاول إقناعها بالتحول للمسيحية حتي تنقذ نفسها من الموت، جاء هذا المشهد قبل نهاية الفيلم موجزًا بشدة، واختصر الصراع بين التعصب الأعمي والفكر الحر في جملة حوار واحدة علي لسان "هيباتيا" قالتها بوازع من الإيمان الأخلاقي (لا الديني) لتثني صديقها عن محاولة إنقاذها.. قالت فيما يشبه الاعتذار والتسليم: إنك لا تراجع نفسك فيما تؤمن به، أما أنا فأفعل ذلك، ولا حيلة لي إلا في السؤال.