«صالح مرسي» لم يكن أباً عاديا بل هو في حد ذاته متفرد حتي في أبوته التي تعدتني أنا وأختي ليصبح بمثابة الأب للكثيرين، بل أنني في أحيان عديدة كنت أستشعر أنه تحول إلي أب لكل الأبطال الذين حول بطولتهم من مجرد عمليات مخابراتية يملكها جهاز المخابرات المصرية إلي رموز للبطولة يفتخر بها كل المصريين والعرب. «صالح مرسي» هذا الشخص الشديد الوطنية والعاشق لمصر كان صادقاً في كل شيء يفعله، فهو لم يكن مدعياً ولم يكن يمارس الشجاعة والبطولة والأخلاق علي الورق أو من خلال الميكروفونات كما يفعلها البعض، ولكنه كان حقيقياً حتي في علاقاته الإنسانية مع كل المحيطين به والذين يعملون معه.. وكان في علاقته بربه نموذجاً حقيقياً للحاج ذلك اللقب الذي كان معظم البسطاء والمقربون ينادونه به، وتعلمت منه أن التقرب إلي الله ليس من خلال العبادات ولكن من خلال اتقاء الله في عباده فقد كان يحرص في شهر رمضان علي أن يقوم بنفسه بإقامة وليمة الإفطار لكل الذين عملوا في منزله طوال حياته ويحرص علي القيام بخدمتهم بنفسه، مؤكداً أن من حقهم عليه خدمتهم كما يخدمونه طوال اليوم.. و«صالح مرسي» الذي لا يعرفه الكثيرون كان عاشقاً للبحر طوال حياته وقد بدأ العمل فيه وعمره 15 عاما.. والغريب أن عشقه للقراءة والأدب كاد يتسبب في كارثة كبري، لأنه كان مسئولا عن مراقبة سير السفينة ولكنه للأسف انشغل عن المراقبة بالقراءة لذلك فقد كان رأي قبطان السفينة له بأن يتجه إلي الأدب ويترك العمل في البحر، ولقد كان أبي شجاعا في قراره عندما قدم استقالته من وظيفة مضمونة في البحر وجاء إلي القاهرة ليدخل عالم صاحبة الجلالة وفي جيبه جنيه واحد، ورغم أن أبي كان أديباً له إنتاجه المميز جدا في أدب البحر إلا أنه سافر مع الرسام المشهور «إيهاب شاكر» إلي اليمن أثناء حرب اليمن وكاد أن يفقده عمره هناك.. إن حياة أبي ملحمية بها محطات هامة وبطولات متفردة في أدب المخابرات واعتقد أنه استطاع الوصول بأدب الجاسوسية إلي مرحلة قد يجد الكثيرون صعوبة لتجاوزها.. ولقد كان «صالح مرسي» في أواخر أيامه يحلم بالعودة من جديد إلي أدب البحر من خلال كتابه رواية «نداء النورس» التي لم يمهله القدر لاستكمالها . و«صالح مرسي» كانت له تفاصيله الخاصة في الكتابة، فرغم أنه يكتب في مكتبه بالبيت، إلا أنه كان يصر علي ارتداء ملابسه كاملة ويضع برفانه الخاص وكأنه ذاهب إلي ميعاد مهم، وكثيراً ماكان يصف ميعاده مع الإبداع بأنه ميعاد غرامي. أوراقه كانت بيضاء ويعشق نوعًا خاصًا من الحبر، وخطه جميل ويتميز بالنعومة.. يضع شريطًا من الموسيقي الهادئة التي يختارها بعناية، ويظل داخل مكتبته يعبر عن أفكاره ويكتب وكأنه متعبدا في صومعته، الصمت يغلف المكان ولا يستطيع أحد الاقتراب من المكتب، فوقت الكتابة مقدس ولا صوت يعلو عليه. ويظل أبي في حياة الكثيرين رمزاً يحتذي به لأنه كان أبًا علي مسمي.. فلقد كان رجلا صالحا، جاء الدنيا ورحل عنها بدون أن يحصل منها علي رصيد في البنوك ولكن في قلوب وعقول المصريين والعرب.