برلماني يطالب بإحالة مقيم الطعن ضد "جمعية الرسوم القضائية" للتأديب    حدث منتصف الليل|تفاصيل مكالمة الرئيس السيسي ونظيره الإيراني.. وسيناريوهات تعامل الحكومة مع الحرب    عضو بنقابة المحامين يكشف آخر تطورات الطعن على وقف الجمعية العمومية    ممثل المستأجرين: تعديلات قانون الإيجار القديم تفتقر إلى العدالة وتتجاهل ظروف البسطاء    نتنياهو: التاريخ سيسجل أن ترامب تحرك لمنع أخطر نظام في العالم    دوي انفجارات شرق طهران ومدينة تبريز    الحوثيون: على واشنطن تحمل تبعات هجومها على المواقع النووية في إيران    "دموع وانحناء".. لقطات عاطفية بين جماهير أوراوا ولاعبي الفريق بعد الهزيمة من إنتر ميلان    "مشفق عليه".. محمد بركات يرد على انتقادات ميدو للأهلى    نتائج مباريات يوم السبت في كأس العالم للأندية 2025    دون إصابات.. السيطرة على حريق داخل شقة في البساتين    هل يجوز الوضوء والاغتسال بماء البحر؟.. أمين الفتوى يجيب    صديقة طبيبة طنطا الراحلة: خدمت مرضى كورونا وتوفيت أثناء عملها    د. هاني أبو العلا يكتب : استثمار الطاقات.. شعار ترفعه جامعة الفيوم    براتب 9200 جنيه.. 200 وظيفة للشباب في مجال الأمن و الحراسات    وفاة مشجع وإصابة 11 في سقوط سياج مدرج باحتفالات تتويج مولودية الجزائر    نتنياهو يجتمع بالقيادات الأمنية والعسكرية بشكل مستمر لبحث التطورات    ترامب: موقع فوردو النووى انتهى تماما    أخبار 24 ساعة.. نقل بعض رؤساء لجان الثانوية العامة لإحكام السيطرة على سير اللجان    هل سيتم رفع سعر رغيف الخبز؟.. وزير التموين يجيب    التعليم تعلن عن رغبتها في التعاقد مع 9354 معلم لغة إنجليزية    30 يونيو.. تأكيد وحدة مصر    يونس: يجب توفير المناخ المناسب لنجاح "جون إدوارد"..والموسم المقبل فارق في مستقبل الزمالك    محسن صالح يطالب بعدم إشراك زيزو في مباراة بورتو بكأس العالم للأندية    بدء الموسم الصيفي ينعش فنادق البحر الأحمر والإسكندرية    حقيقة تداول نتيجة الشهادة الاعدادية بالشرقية قبل اعتمادها رسمياً    انتهاء عمليات البحث أسفل ركام عقار حدائق القبة النهار بعد استخراج كافة الجثث    شديد الحرارة والعظمى في القاهرة 35.. حالة الطقس اليوم    زيزى مصطفى والدة منة شلبى تتعرض لوعكة صحية وتنقل للمستشفى.. زينة تصور مشاهدها فى الشيطان شاطر.. نجوم أحمد وأحمد يتصدرون البوسترات الدعائية قبل طرحه.. كريم الشناوى يصرح بدعم الكاتب عبد الرحيم كمال للام شمسية    وزير الشباب والرياضة يتفقد نادى نقابة المهن التمثيلية فى حضور أشرف زكى    الصحف المصرية.. تحركات متسارعة وبرامج انتخابية طموحة    مان سيتي ضد العين.. جوارديولا: مباريات مونديال الأندية صعبة ومتكافئة    هل يجوز الوضوء والاغتسال بماء البحر؟    إيران وإسرائيل تتبادلان الضربات    4 مواجهات ترسم ملامح التأهل في البطولة    ب 1450 جنيهًا من البيت.. خطوات استخراج جواز سفر مستعجل إلكترونيًا (رابط مباشر)    استهداف مجمع نووي في أصفهان للمرة الثانية منذ بدء الهجمات على إيران    التعجل في المواجهة يؤدي إلى نتائج عكسية.. حظ برج الدلو اليوم 22 يونيو    «موازين» يطلق فعاليات دورته ال 20 تحت شعار «إيقاعات العالم»    «المشروع X» يواصل الصدارة.. و«في عز الضهر» إيرادات ضعيفة    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 22 يونيو 2025 (تحديث الآن)    سعر البصل والليمون والخضروات بالأسواق اليوم الأحد 22 يونيو 2025    استمرت لأكثر من 12 عامًا.. «مصالحات الأزهر» تنهي خصومة ثأرية بأسيوط بين «آل الشهاينة» و«آل العقل»    وجهات نظر    من غير مكملات.. أهم الأطعمة الغنية بفيتامين د    ابعد عنها بعد الساعة 10مساءً.. 6 أطعمة تسبب الأرق    بسبب حكم غيابي.. احتجاز زوجة مدرب منتخب مصر في الإسكندرية    تصل للمؤبد.. احذر عقوبات صارمة لبيع المنتجات المغشوشة    وزارة التضامن الاجتماعي بكفر الشيخ يشهد فاعليات ختام البرنامج التدريبي    إنطلاق امتحانات المواد الأساسية لطلاب الثانوية العامة بأداء اللغة العربية اليوم    رئيس مدينة دمنهور يقود حملة مكبرة لإزالة الإشغالات من شوارع عاصمة البحيرة.. صور    كأس العالم للأندية| التشكيل الرسمي ل فلومينينسي وأولسان في الجولة الثانية    صبحي موسى ومأزق التنوير العربي    د.حماد عبدالله يكتب: السينما المصرية!!    كيف تحافظ على برودة منزلك أثناء الصيف    بداية جديدة وأمل جديد.. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة    رئيس جامعة الأزهر: العقل الحقيقي هو ما قاد صاحبه إلى تقوى الله    حكم صيام رأس السنة الهجرية.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملحمة لم يتبق منها إلا الإكليشيه
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 12 - 2010


هذه مأساة عمل ظلمته شهرته.
إكليشيه يقال في حب الوطن، أو سخرية منه، مثل "مصر أمانة في رقبتك يا رأفت"، يختصر الآن ملحمة أدبية كبيرة، ملحمة عن الهوية، كيف يمكن للفرد أن يتخلص من هوية معينة ويعيش بأخري مختلقة تماماً، كيف يصير لزاماً عليه أن يصدق الأخري، مع خيط رفيع يصله بالأولي، كيف يعيش وسط مجتمع الأعداء، يتعاطف معهم ومع أزماتهم بشكل طبيعي، مع اليقين الحاد في نفس الوقت بأنهم لايزالون "أعداء"، وغير هذا الكثير.
في عام 1995، نشرت الزميلة هالة العيسوي بمجلة آخر ساعة حوارا أجرته الصحفية الإسرائيلية سمدار بيري مع صالح مرسي في صحيفة يديعوت أحرونوت. حمل الحوار الإسرائيلي عنوان "أنا لا أكره إسرائيل"، وكان لابد للوسط الثقافي المصري أن ينتفض، رغبة منه في معرفة الحقيقة من فم ذلك الرجل الذي صاغ لسنوات طويلة جزءا كبيرا من العقل المصري (والعربي) فيما يخص العلاقة باليهود وبالصراع المصري الإسرائيلي. اتصلت الزميلة بركسام رمضان بصالح مرسي فور نشر الحوار المترجم عن العبرية، قال لها في خبر نُشر في "أخبار الأدب" عن ملابسات الحوار الإسرائيلي: "سألتْ إنت تقول عنا إننا نحب الفلوس، فقلت لها إن الجاسوس يأخذ فلوساً مثله مثل أي جاسوس آخر، وهناك جواسيس كثيرون ليس اليهود فقط."
في العدد التالي حاورت أخبار الأدب صالح مرسي حواراً مطولاً، قال في إحدي فقراته: "هذا هو السؤال الغريب الذي بدأت حديثها به: لماذا تكرهنا؟ ورددت بسؤال أكره من؟ قالت تكره اليهود . قلت لها إن هذا غير حقيقي، أنا أكره الصهيونية وأنا ضد الصهيونية، قلت لها هذا بالتحديد، وقلت لها لا تنسي أن اليهود كانوا يعيشون بيننا في مصر في سلام ولو تذكرين فإن رأفت الهجان في الجزء الأول كان لأبيه صديقان، أحدهما يهودي اسمه عم زكي، والثاني مسيحي اسمه عم رزق، هذه ليست حكاية رأفت الهجان، هذه حكايتي أنا، هذان الصديقان كانا صديقين لوالدي.

قامت مؤخراً دار الشروق بإعادة نشر أربعة كتب لصالح مرسي، تنتمي أغلبها لأدب الجاسوسية، "سامية فهمي"، "الحفار"، "رأفت الهجان" و"ليلي مراد" وهو كتاب يضم حوارات مع المطربة المصرية الراحلة. لم يتم اتخاذ قرار بعد في مسألة نشر الأعمال التي لا تنتمي ل"أدب الجاسوسية" للكاتب، مثل "البحار مندي" وغيرها. إعادة النشر كانت، بحسب فادي عوض المحرر بدار الشروق، لأن "صالح مرسي كاتب مميز ولديه أسلوب خاص به، كما أنه استطاع الغوص في تاريخ مصر الحديث ليخرج لنا عملاً أدبياً من هذا، ولديه رصيد كبير من قراّء الأدب ومشاهدي التليفزيون علي حد سواء."
ولكن صالح مرسي لديه أشياء أخري أيضاً تضاف لهذا، من رواياته يمكننا مثلاً فهم أشياء كثيرة عن العلاقة باليهود، المصريين وغير المصريين، تلك العلاقة التي تظل ملتبسة وغير حاسمة حتي يومنا هذا وخاضعة للعديد من علامات الاستفهام.
علي مدار عقود طويلة، كان الموقف المعلن لليسار المصري والقوي التقدمية في هو العداء لإسرائيل، واحترام اليهودية كدين سماوي، وعدم اعتبار أتباعها ممثلين بالضرورة لإسرائيل أو للفكر الصهيوني. هذا كان هو الموقف المعلن، وليس شرطاً أنه كان الموقف الحقيقي.
تتيح لنا رواية "رأفت الهجان" تأمل العلاقة الملتبسة بين كاتب مصري وبين اليهود، اليهود المصريين بالتحديد في الجزء الأول، ثم الإسرائيليين في الجزئين التاليين. القصة، كما يعرفها كل شاب مصري تابع حلقات المسلسل في التسعينيات، هي قصة جاسوس زرعته المخابرات المصرية في بدايات تكونها داخل إسرائيل، وتبدأ من فترة تكون الفتي ("الفتي" كان هو الوصف الذي اختاره صالح مرسي لبطله الأسطوري علي مدار صفحات الرواية) كأفّاق مصري، ينتحل عدة هويات، مسلمة ومسيحية ويهودية، مصرية وفرنسية وإنجليزية، لكي يقلب عيشه، وعثور ضابط المخابرات "محسن ممتاز" عليه وتفكيره فيه كنواة محتملة لعميل مصري يخدم وطنه من داخل إسرائيل، التي كانت لاتزال كياناً وليداً في السنوات الأولي للثورة. يعيش الفتي بين أوساط اليهود المصريين لفترة لا بأس بها، بهويات متتالية، ليفي كوهين، ثم ياكوف بنيامين حنانيا، ثم في النهاية، دافيد شارل سمحون، قبل أن يسافر لإسرائيل ويبدأ في تكوين شبكته التجسسية هناك.
مرحلة تعايشه مع اليهود المصريين في السنوات الأولي للثورة هي الأهم هنا، هي التي تكشف عن علاقة المثقفين المصريين باليهود، لا في عام 1954، حيث تقع بداية الأحداث، بل في سنوات كتابة الرواية، والتي صدرت للنور في طبعتها الأولي عام 1986، أي بعد آخر موجة كبيرة لخروج اليهود بثلاثين عاماً.
تشير الرواية إلي بار استانبيلوس وإلي ركن اليهود فيه، ذلك الذي صار الفتي ملزماً بارتياده للتعرف علي حكايات اليهود ولتأسيس لنفسه تاريخاً من "النضال الصهيوني" بحثاً عن أرض الميعاد. يقول الكاتب عن ركن اليهود بالبار:
"كان يتميز بشيء خاص تماماً، وهو أن كل فرد من رواده، كان لابد أن تكون له علاقة بأحد الأركان الأخري... كان منهم صحفيون، ومنهم أصحاب المزاج، ولعيبة طاولة ودومينو، كما كان منهم التجار... لكن الواحد منهم _ بالرغم من هذا _ كان يعود دائماً إلي ركن اليهود لممارسة حياته الحقيقية بين بني جلدته... كان من المستحيل أن تجد واحداً منهم يعمل عملاً واحداً، أو يشغل وظيفة واحدة، وكانوا _ جميعاً _ مهتمين أشد ما يكون الاهتمام بكسب المال!"
هكذا نبدأ بالادعاء التقليدي _ الذي سيلازم الرواية علي طول صفحاتها _ ببخل اليهود، ولكننا نجد أيضاً الادعاء الأهم، المتسرب بين السطور هذه المرة، حياة اليهودي بين سائر المصريين ليست هي حياته الحقيقية، وإنما حياته الحقيقية هي بين بني جلدته من اليهود، اليهودي يهودي فحسب، ليس مصرياً ولا صحفياً ولا صاحب مزاج ولا لاعب طاولة ودومينو.
يبدو صالح مرسي حريصاً علي أن يسرب أفكاره ضد اليهود، من حيث هم يهود أحياناً، في هيئة الحقيقة العلمية، يبدو واعياً بشدة بهذا، ف"فراو سمحون"، زوجة رأفت الهجان الألمانية التي لم تكن تعرف شيئا عن طبيعته "ليست من أعداء السامية، وهي تري أن العداء لجنس من البشر نوع منحط من التخلف فرضته ظروف بعينها.. ولكن ثمة حقائق وصفات بالنسبة للأجناس تبدو كجزء من جيناتها وطبيعتها وتكوينها الديني والخلقي والاجتماعي والوراثي.. هي تعرف _ دون تحزب أو تعصب _ أن اليهودي إذا ما ساوم حول صفقة، أو بيع أو شراء أو مشاركة، سار في طريق من يريد أن يأخذ كل شيء، ولا يعطي شيئا علي الإطلاق... وكما اشتهر الإنجليز بالبرود اشتهر اليهود بالبخل.. هؤلاء هم اليهود في كل زمان ومكان وعصر. ولكن ديفيد لم يكن كذلك!"
هذا طبيعي. علي طول بدايات الرواية، بينما الزوجة لم تعرف بعد حقيقة زوجها الراحل، يتم التشديد علي ملاحظتها أن ديفيد لا يبدو شبيهاً باليهود في صفاته، وأنه يسعد بسماع هذا. هذه هي الغمزة التي يغمزها صالح مرسي لنا نحن القراء. نحن الوحيدون الذين نعرف أن ديفيد لم يكن إلا مصريا مسلماً.
بل وأكثر من هذا، تتسرب من ديفيد أحيانا بعض التلميحات الفكاهية ضد اليهود، الذين يفترض أنه منهم، يقول لزوجته وهو يساومها: "لا تنسي أنني يهودي"، يتطور التلميح في رواية أخري هي "دموع في عيون وقحة" ليصبح علي لسان يهودي حقيقي، ضابط استخبارات إسرائيلي يساومه جمعة الشوان فيهتف فيه حانقاً: "إنت إيه.. يهودي!؟"
يؤدي هذا السؤال هنا وظيفة مزدوجة، فهو يؤكد أولاً علي بخل اليهودي، ولكن أهميته تنبع من كونه صادراً من يهودي لحماً ودماً، وفي ما يشبه زلة لسان، أي من أعماق لا وعي اليهودي، أي، وشهد شاهد من أهلها. هذه الفكاهة كانت تثير موجات من الضحك من مشاهدي المسلسل وقراّء الرواية، لأنها نكتة لا تقوم بتهديدنا، نكتة تغازل ذواتنا الوطنية، نكتة تتمتع ب"اللطف" إذا جاز التعبير.

رواية "رأفت الهجان" هي عمل ملحمي عظيم، هي واحدة من النماذج القليلة التي تجتمع فيها صفتا "العمل الأهم" و"العمل الأشهر" للكاتب، ويمكن للأعمال الملحمية العظيمة أن تقع في أخطاء كتلك. ليس العمل العظيم بالضرورة هو العمل الذي يقول مقولات صحيحة إنسانياً، فشروط الفن غير شروط الفكر الإنساني. ومع هذا، فالعمل أعقد من أن نتهمه بالعنصرية ضد اليهود! صحيح أنه يمكن للناقد اتهام الرواية بمعاداة اليهود، وأن يريح باله بذكر فقرات كثيرة في الرواية تؤكد علي المعني بقوة، ولكن هذا لن يكون إلا نصف الحقيقة. واحد من أسباب أهمية رواية "رأفت الهجان" هي أن "قولبة اليهود" ليست هي حقيقته الوحيدة، هناك حقائق أخري، وهناك يهود طيبون يتناثرون علي طول صفحات الرواية، بل وإسرائيليون حتي. يمكننا استرجاع شخصية رجل الأعمال السكندري "شارل سمحون" الذي ساعد الفتي في مقتبل حياته وكان هو جواز سفره لإسرائيل _ بالمعني الحرفي، إذ أعطاه باسبوراً، كما، وهو الأهم، منحه اسم ابنه الراحل،
في لحظة مثيرة للعواطف. هكذا إذن، يعيش رأفت الهجان في إسرائيل مثقلا بالإحساس بالولاء لهذا المليونير اليهودي، الصهيوني، الذي كان يعمل علي تهجير النشطين بشكل غير شرعي لإسرائيل. يعيش باسم ابنه المفترض، ويرفض تغييره بشكل حاسم.
هناك كذلك شخصية "حنة بلومبرج" التي أحبها الفتي في إسرائيل، يهودية تعيش في الولايات المتحدة، وذات أراء معادية للصهيونية بقوة ويجادلها الفتي طول الوقت في آرائها، هو »المناضل الصهيوني« المفترض. وشخصية "سيرينا أهاروني"، اليهودية من أصول مصرية، والتي تتعاطف بشكل خفي، ومعلن أحياناً، مع المصريين. تحكي سيرينا للفتي عن طفولتها بمصر وقصة حبها لشاب مصري، قبل هجرتها لإسرائيل. قامت إسرائيل، وقامت حرب 56، وفوجئت بالشاب من ضمن الأسري المصريين، وهي اللحظة التي كانت مشحونة عاطفيا تماما بالنسبة لها. "كانت نشوة النصر المزيف قد خلبت لب الناس خاصة بعد أن جاءت أفواج الأسري المصريين كي توضع في المعتقلات! أقسم الفتي بأغلظ الأيمان أنها ذكرت كلمتي النصر المزيف وأنها كانت تعنيهما، بل إنها _ وقد رأت علي وجهه علامات الدهشة _ أعادتهما علي سمعه كي تؤكدهما!!"
وإستر بلونسكي، سكرتيرته في شركة السياحة التي أقامها بأموال شارل سمحون والمخابرات المصرية سوياً. لم تخف إستر أبداً كراهيتها المتعصبة للمصريين ولا حقدها عليهم. ومع هذا، فعندما يُطلب من الهجان قطع علاقته بها، لا يتمكن من هذا بسهولة، "كان موقنا أنه في ذلك العشاء الذي ستقيمه في مساء الغد علي شرفه سوف يقطع _ بسكين مرهف النصل _ كل علاقة له بهذه السيدة التي أعطته طوال سنوات ثلاث، كل شيء، كل شيء... أعطته الحب كما قدمت له صداقتها وأغرقته بحنانها بل وأمومتها الكامنة."
المثير للدهشة وللإعجاب أن صالح مرسي، وهو واحد من صناع الذاكرة الوطنية لمصر في العقود الأخيرة، لم يرتعش قلمه أبداً وهو يكتب عن هذه الشخصيات. هل كان واعياً أن "أنسنة العدو"، أي رؤيته كإنسان ورؤية تناقضاته الداخلية بعمق والإعجاب ببعضها وعدم الإعجاب ببعضها، لا تؤدي بالضرورة إلي إلغاء كونه عدواً ولا تفترض مسبقاً الوقوع تحت أسر شخصيته؟ ربما. علي العموم، فلقد ارتعش قلمه في موضع آخر.
علي طول صفحات الرواية، يلمح صالح مرسي إلي علاقة مركبة نمت بين جهاز المخابرات المصري والموساد الإسرائيلي. هذه العلاقة نتجت عن الصراعات المحتدمة بين جهازي المخابرات في الستينيات والسبعينيات، وأنتجت كماً لا بأس به من التشابهات بين أداء في فترة ما، الاثنان كانا يجندان العملاء بنفس الطريقة، وهي الادعاء بأن العميل يعمل لصالح "منظمة سرية للسلام في الشرق الأوسط". هل هو التشابه الحتمي الذي ينتج بين الإنسان وغريمه؟ يبدو الكاتب واعياً بشدة بهذه العلاقة المركبة، ويبدو مرتبكاً إزاءها. يتحدث عن أسلوب تجنيد العملاء في فقرات مطولة تحمل كلها نبرة الاستفهام:
"الغريب في الأمر أن المحقق في تلك الفترة _ بداية حقبة الستينيات.... سوف يكتشف أن كلا الجهازين، في عمليات بعينها هي عمليات تجنيد العملاء بالذات، كان يتبع أسلوباً واحدا، وكان الرجال من الجهازين يستعملون نفس الحجج، بل ربما نفس الكلمات!!"
"هذه ملاحظة نراها جديرة بالتوقف أمامها، لأنها تثير بالضرورة عددا لا بأس به من الأسئلة فهل كان هذا التشابه معلوما للطرفين منذ البداية؟... أم أنه ظل خافياً لفترة؟!"
"وهل بدأت الموساد بهذا الأسلوب، بصفتها الجهاز الأقدم، ثم التقطته المخابرات المصرية كي تطوره وتطوعه وفقاً لاحتياجاتها وأهدافها؟!"
"أم أن الظروف التي أحاطت بالمنطقة في تلك الحقبة ضيقت الخناق علي الجهازين معا فلم يجدا أمامهما سوي اتباع نفس الأسلوب ونفس الحجج."
هكذا يصيغ الكاتب أسئلته، في فقرات تبدو اعتذارية أو مبررة، ولكنها لا تتنصل أبداً مما يراه الكاتب بوصفه "حقيقة".

إن كان ثمة درس أدبي يمكننا تعلمه من "رأفت الهجان" فهو كيف يمكن صياغة قصة طويلة، يبلغ عدد صفحاتها حوالي ألف صفحة، بحسب طبعة دار أبولو، من دون الإحساس بالملل أبداً. خاصة في صراع استخباراتي لا يحوي أي قدر من الأكشن (بالمقارنة بصراعات أدهم صبري الاستخباراتية، أو حتي صراعات فيلم "أولاد العم"). المشاعر الإنسانية هي ما يتكئ عليها هنا كثيرا. تعلُق الفتي بضابط المخابرات محسن ممتاز، تعلقه بشريفة أخته، وحتي تعلقه بالضابط الذي لم يلتقه ولا مرة في حياته، عزيز الجبالي، والذي ظل مع هذا يشعر بوجوده، يشعر أن ثمة شخصاً علي الجانب الآخر يحاوره شخصياً، ويعرفه، ويوجه له الحديث بشكل حميمي ومباشر في شفرات اللاسلكي الجافة التي كان يبعث بها إليه.
بكاء الرجال هو تيمة مركزية في العمل، لا يبدأ الكاتب به، يبدأ ببكاء شريفة، أخت رأفت العاطفية التي تعشق أخاها حد الوله، ويعشقها هو بنفس القدر أيضاً. منذ الجزء الأول يطالعنا هذا الكريشندو الحواري بين رأفت وشريفة في التليفون: "رأفت!/ إزيك يا شريفة!/ إنت الجهازين، الاثنان مثلاً تفوقا في صناعة الأحبار السرية فين؟!/ أنا....../ وكنت فين طول المدة دي؟/ أصل الشغ........./ وبتتكلم منين؟!/ من شارع قص....../ شغلتني عليك!/ يا شر........./ يعني مش حاشوفك؟!/ أمال انا باتكلم ليه؟!/ اختنق صوتها ثم انفجر مغموساً في دمع فياض: طب ما تيجي يا رافت دانت وحشتني قوي!"
ويتكرر هذا الكريشندو، ولكن بشكل أطول هذه المرة، في الرسالة التي حملها لشريفة سهيل باتع من أخيها المقيم في إسرائيل. مع الوقت، وتقدم أحداث الرواية، تمتد تيمة البكاء إلي رجال المخابرات أنفسهم، فبعد أن طالعنا في الجزء الأول وجه محسن ممتاز صلب الملامح، القاسي، نجد في الأجزاء التالية شخصية عزيز الجبالي، القرين الروحي (والعاطفي الذي يحاول إخفاء مشاعره ولا ينجح غالباً) لرأفت الهجان علي الطرف المصري للصراع. نجد لحظات تأثر ودموع من سهيل باتع ونديم هاشم، والضباط الأحدث الذين لازموا شيخوخة الهجان. تبدأ الرواية بالنصيحة الذهبية التي يلقنها "الأستاذ إسماعيل" علي مسامع رجال المخابرات الأوائل، أثناء بداية تكون هذا الجهاز العملاق، وهي "لا دخل للعواطف في العمل" و"إياك والوقوع في حب العميل"، من هنا تأتي أهمية لحظات البكاء، كونها تعدياً علي المبدأ المؤسس، كونها تأتي اختراقاً أو تهديداً وتلميحاً بالفوضي التي تشيع في قلب النظام.
لكن لحظات البكاء تزداد كلما تقدمنا في الرواية، كأننا نري هنا كاتباً أعجب بلعبته فظل يكررها، حتي فقدت معناها، وحتي مهدت الطريق لتحول ملحمة "رأفت الهجان" إلي إكليشيه ألفيني ساخر عن حب الوطن. ولكن صالح مرسي يعي هذا بقوة. لفقرات مطولة يتحدث عن شخصية خالد عز العرب، ضابط الاتصالات الذي يعلم رأفت الهجان مبادئ اللاسلكي، ذو العقلية العملية التي لا تعرف العواطف، والذي يحضر الكثير من اللحظات المشحونة بالعمل والتوتر العصبي بين الهجان ونديم هاشم، فيبكي في كل مرة، "قال خالد إنه يعترف أن دمعة حاولت الفرار من عينيه. لكنه مسحها قبل أن تسقط"، هذه مرة، ولكن في مرة أخري يقول الكاتب "وتساءل خالد عز العرب عن تلك الظاهرة الجديدة في حياته، فلقد أصبح كلما تأثر من شيء، يدمع بالرغم منه."
لبكاء الرجال دائماً معان أعقد من مجرد البكاء، علي خلفية حقيقة يتعلمها الرجال في الصغر وهي أن "الرجل لا يبكي"، يصبح للبكاء هنا معني التناقض. هذا هو الذي شحن العمل بكل هذا القدر من العواطف، خاصة أن الرجال محل الحديث هنا هم رجال من نوع خاص، رجال مخابرات، يفترض أنهم قساة وكتومون. هكذا يستعين مرسي بتيمة أدبية قديمة لا تفقد تأثيرها علي مر الأيام، تيمة "بكاء الرجل" ليطبقها علي أناس آخرين، أكثر صلابة من الرجال العاديين، وبالتالي فهم أكثر "رجولة" في الوعي العام ربما.

واحد من العناصر المبهرة في العمل، هي وعي الكاتب بكل المقولات التي يرددها والتي تبدو خطراً علي نظامه الأدبي. يبرر اتهام اليهود بالبخل بالقول أن هذه ليست عنصرية وإنما ما يشبه "حقيقة أنثروبولوجية"، مع خلقه لشخصيات يهودية لا تتسم بالبخل، يجعل بطله يغرق في حب الإسرائيليات مع وعيه بأنهن لا يحببن "رأفت الهجان" فيه وإنما "ديفيد شارل سمحون"، يلاحظ التشابه بين أداء جهازي مخابرات عدوين فيحاول تقديم الاعتذار لهذا أو تبريره، مع عدم التنصل منه.
هنا كاتب يكتب بيد مرتجفة، أو أنها علي العكس، قد تكون طليقة أكثر من اللازم، فتأتي الكتابة مشابهة تماماً لشخصية صاحبها، ومشابهة لشخصية الإنسان في عمومها، مرتبكة، تقول الشيء ونقيضه، لا يمكن سجنها في مقولة واحدة متجانسة، مثلما هي الأعمال العظيمة كلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.