علي سبيل الاستهلال أنقل عن رئيس وزراء تركيا التعبير التالي الذي قاله أمس: إسرائيل لا تزال صديقتنا .. لكن الحكومة الحالية تعرقل جهود السلام. يحلو لبعض مداحي رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا أن يطلقوا عليه وصف (السلطان)، وأحيانا يقال عنه (الفاتح)، وأيضا (الغازي).. ولكل من الكلمات الثلاث مدلولات تاريخية مفهومة تعود إلي تاريخ أسلافه العثمانيين، وامبراطوريتهم التي كانت تسيطر علي مساحات جغرافية مهولة.. إلي أن انهار ما بقي منها بختام الحرب العالمية الأولي.. وسقوط السلطان الأخير.. عبدالحميد. لا رجب أردوغان سلطان.. ولا هو فتح شيئا.. وحتي ما يمكن أن يوصف - مجازا - بأنه غزوة، انتهي بمذبحة بحرية.. لا هو قادها.. ولا كانت معركة.. ولا أحرزت نصرًا.. بل ألحقت هزيمة كبيرة بالسياسة التركية حين قتل تسعة أتراك علي ظهر السفينة (مرمرة) بأيدي جنود البحرية الإسرائيلية. لكن هذا الإحساس الامبراطوري يخالج تركيا.. بل إن نصوصا نظرية وتوجهات معلنة لحزب العدالة والتنمية الحاكم.. ولوزير الخارجية أحمد أوغلو.. تمضي في اتجاه الاعتقاد أن بمقدورها أن تعيد نشر نفوذها الذي كان في ذات الدوائر التي كانت لها قبل أن تسقط الامبراطورية. لقد ألمحت أمس، إلي ما أريد أن أتناوله بمزيد من العمق اليوم، وهو أنه أولا لا يمكن استعادة المجد الامبراطوري.. وثانيا أنه لا يمكن أن تمارس هذا التوسع السياسي (فجأة) ووفق قاعدة (الخيار الصفري) التي تنص علي أن تركيا تريد أن تخفض مستوي عدائها مع الجميع إلي العدم. لقد سقطت تلك النظرية عمليا في مذبحة البحر. وتورطت تركيا في تناقض حاد ما بين رغبتها في ألا تعادي أحدا وضرورات أن ترد علي الاستعداء الإسرائيلي. وبالتالي فإن (مسالمة) الجميع هو خيار مستحيل.. يقود إلي تخبط وارتباك.. ولا يحقق أي هدف.. ولا يخدم أجندة. إمبراطورياً: لا يمكن، مثلا، لإيطاليا أن تتصور أنه يمكن أن تستعيد نفوذها الروماني، كما لا يمكن لليونان أن تعتقد أنها يمكن أن تفرض هيمنة علي نطاقها الاثيني الغابر.. أو أن تظن أنها يمكن أن تحيي الإسكندر ولو كان في صورة وزير خارجية يريد أن يمنحها توسعا سياسيا ليس له غطاء عسكري، كما لا يمكن للمسلمين أن يعودوا إلي الأندلس.. ولا للفرس أن يستعيدوا سيطرة علي نطاق جغرافي محيط امتد بهم في عصور سابقة حتي غزوا مصر. والواقع أن فكرة أو معني استعادة الامبراطوريات التي كانت، سواء بالنفوذ السياسي أو بالهيمنة أو بالسيطرة أو حتي بالأحلام، هي توجهات لاحقت في العشرين سنة الأخيرة قوي مسلمة مختلفة.. تنظيم القاعدة تقوم فكرته في الأساس علي استعادة التاريخ الامبراطوري الإسلامي.. وإعادة بناء الخلافة الإسلامية.. وتقسيم العالم إلي فسطاطين: مسلم وكافر، وهي فكرة موجودة بالأصل في عقيدة الإخوان المسلمين.. وذات المعني هو الذي يحرك الفرس في إيران.. وها هو يكشف عن نفسه بصورة جديدة في أحلام تركيا العثمانية. موازين القوي اختلفت. وعصر الغزوات الذي صنع الفتوحات الإسلامية انقضي. ليس فقط لأنه لا يمكن تحريك الجيوش علي طريقة سلاطين العصر الماضي.. ولكن أيضا لأن في العالم الآن دولا لكل منها شخصيتها ومصالحها وحساباتها.. وهي لا تقبل من الآخرين أن يفرضوا عليها أجنداتهم ولو كانت دون غزوات عسكرية. إن اللافت بالطبع في كل تلك الأوهام الامبراطورية، العصرية، العائدة إلي أصول فكرية إسلامية، هو أنها غالبا ما تطرق باب الحلم عن طريق قضية فلسطين.. الإخوان فعلوا هذا.. القاعدة تلف وتدور حول هذا.. إيران تستخدم ذلك.. وتركيا لم تجد بابا أوسع من هذا لكي تعلن عن توجهاتها الجديدة تلك. وبالتأكيد يعطي ذلك دليلاً جديدا علي أن بقاء هذا الظلم التاريخي الممتد للشعب الفلسطيني إنما يمثل وقودا مستمرا لكل أنواع التطرف.. بما يقوض الاستقرار.. سواء أخذ هذا التطرف شكل الحلم العابث بالنسبة لجماعة الإخوان.. أو أخذ شكل الإرهاب بالنسبة لتنظيم القاعدة.. أو أخذ شكل تصدير الثورة والسعي إلي الهيمنة الإقليمية بالنسبة إلي إيران.. أو أخذ شكلاً له إطار خارجي رقيق وله جاذبية دعائية كما هو حال تركيا.. ومن ثم فإن عدم الوصول إلي تسوية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سوف يبقي الباب مفتوحا أمام محاولات متكررة ومختلفة في هذا السياق.. لن تنقضي إلا بالوصول إلي صيغة حل عادلة.. هي نفسها التي سوف تقود إلي ما يشبه الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. لكن هذا كله يعود بنا مجددا إلي المحاولة الامبراطورية الأخيرة. أي المحاولة العثمانية. تلك التي تفتقر إلي منطق السياق.. يعوزها اتساق التوجه.. إذ، بحسن نية أو بسوئها، عن قصد أو بدون، فإن تركيا خبطت وتخبطت مع مصالح عديد من الدول التي ظنت أن حالها كما هو في بدايات القرن العشرين.. أو أنها لم تزل ولايات تابعة للأستانة.. تسدد الخراج.. ولا تتخذ قرارا إلا بالرجوع للباب العالي. حقائق الوقائع تفرض علي تركيا أن تعيد النظر في طريقة تحركها. أن تنتبه إلي أنها ليست وحدها في المنطقة. فما بالك بالعالم كله. أن تستعيد الاعتراف بمقومات العناصر الإقليمية المختلفة.. وألا تتجاهل أن الشرق الأوسط يضم قوي متنوعة لها تاريخها ووجودها وتأثيرها ومصالحها.. وأنه لا يمكن أن تنطلق في كل الاتجاهات متخيلة أن الأبواب سوف تفتح لها.. أو تعتقد أنه يمكن أن تتاجر بأوراق المنطقة لدي الحليف الأهم والأكبر الذي تطمح إلي أن تنال رضاءه، وهو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لقد بدأت هذا التحليل أمس بحديث عن منع تركيا طائرة عسكرية إسرائيلية من أن تستخدم أجواءها وهي في الطريق إلي بولندا.. وأشرت إلي أن هذا المنع (بالقطعة) لا يمثل موقفا ثابتا لتركيا تجاه إسرائيل.. وبما يقوض التعاون الاستراتيجي التركي الإسرائيلي.. حتي بعد وقوع مذبحة البحر.. وهذا في حد ذاته يعيد التأكيد علي أن أحلام الامبراطورية ليست سوي أوهام.. إذ إن الامبراطوريات لابد لها من سلوك معروف قوي لا يمكن أن يكون رقيقا حنونا حين يقتل مواطنيها في عرض البحر.. كما أنها لا يمكن أن تمارس السياسة بهذه الطريقة المتخبطة ، ولا أن تؤكدصداقة دولة بينما تعادي حكومتها كما ظهر جيداً في استهلال هذا المقال. الأَولي.. تكريم وزير الدخلية ص8 [email protected] www.abkamal.net