أتمني أن يكون مهرجان الضحك، الذي ينطلق في القاهرة بعد أيام، بداية لتصحيح مفاهيم وأنماط مغلوطة سادت حياتنا المسرحية حول الضحك وفن الكوميديا، أنماط وقعت في فخ استجداء الضحك عبر الاستظراف والمبالغة ومخاطبة الغرائز والسطحية التي تطعن فنًا نبيلاً -هو فن الكوميديا- في مقتل. إن الضحك فلسفة ورؤية مختلفة للعالم تتطلع لمستقبل أفضل للإنسان ومعني جديد للحياة فالفيلسوف الفرنسي الشهير «برجسون» يري في كتابه الأشهر «الضحك» أن: الضحك هو قبل كل شيء، وسيلة للإصلاح، فما دام الغرض منه هو التحقير، فلابد أن يترك انطباعا أليما في نفس الشخص الموجه إليه، إذ إنه بالضحك ينتقم المجتمع لنفسه ممن يستهينون بموضوعاته ولا يعني هذا أن للضحك صلة أساسية بالقيم الأخلاقية، لأن الضحك ينبع من غرابة الشخصية وليس علي فضائلها أو مساوئها إلا إذا كانت هذه الفضائل أو المساوئ تجعل الشخصية مثيرة للسخرية، فالشيء الرئيسي الذي يمنح الشخصية صفة «الكوميدية» هو الخروج علي الأعراف والمواصفات المألوفة في مجتمع ما، بشكل يثير فينا الضحك ويدفعنا إلي تجنب هذا الخروج في أنفسنا خوفا من أن نتعرض للسخرية، وعليه فإن السخرية من الشخصية في الكوميديا تقود إلي إدراك أن هذه الشخصية «تشذ» عن التوافق مع السلوك المجتمعي الذي يرتضيه أناس يعيشون في ظروف اجتماعية محددة في زمن محدد. ولا يعني هذا أن النقد هو الهدف الوحيد للكوميديا فنحن كثيرا ما نضحك «مع» الشخصية وليس «عليها» وهذا يحدث عندما تكون هذه الشخصية علي وعي تام بمواضع النقص في تركيبتها ولكنها رغم ذلك تذكرنا بما يكمن في داخلنا من تناقضات فلو وقعت شخصية في مواقف محرجة مؤلمة فنحن عندما نضحك في هذه الحالة يكون الضحك مشوبًا بالتعاطف مع الشخصية وليس السخرية منها، ونشعر هنا أننا نشاركها تجربتها بوصفها تجربة إنسانية تؤثر فينا وتعنينا. وكما أن بعض أنواع الكوميديا يهدف إلي نقد النقائص والأخطاء فإن هناك أنواعًا من الكوميديا تهدف إلي الترفيه والإمتاع (الراقي) بشكل أساسي، ثم توتر الجمهور المتلقي وانغلاقهم علي ذواتهم بشكل ثانوي وهذا ما يراه عالم النفس الشهير «فرويد» أنه السبب الأول في وجود ظاهرة الضحك. ويري «برجسون» أن التعاطف عدو للضحك فأثر الكوميديا لا يتحقق دون احتفاظ المتلقي بموضوعيته الكاملة إزاء ما يشاهده. يقول برجسون: «إننا نضحك عندما يوحي إلينا الإنسان أنه شيء وليس إنسانا» و«يضحكنا الفرد الذي يستمر في حياته دون أن يشغل نفسه بالاتصال بإخوانه من البشر» و«إن الجمود والآلية وشرود الذهن وانعدام الصلة بالمجتمع تتصل بعضها بالبعض، وهي بمثابة عوامل مشتركة في خلق عنصر الفكاهة في الشخصية».. أما أنواع الكوميديا فقد وضع «آلان توماس» في كتابه «تشريح الدراما» سلمًا تصاعديًا للكوميديا يبدأ من الكوميديا الهزلية ثم ترتقي عبر أنواع أخري لتصل إلي الكوميديا التي تعتمد علي التناقض والحبكة. ويقسم «ألارديس نيكول» الكوميديا في كتابه «نظرية الدراما» إلي خمسة أنواع: «الفارس- كوميديا الطباع- الكوميديا الرومانسية- المأساة الكوميدية- كوميديا الحيل والدسائس- الكوميديا الأخلاقية» وتحتاج الكوميديا إلي حرفية عالية في الكتابة للوصول إلي بناء درامي متماسك يضم حبكة محكمة ومواقف كوميدية مدروسة وحيلاً درامية مختلفة. الحقيقة أنني اتطلع لأن يساهم مهرجان الضحك القادم عبر عروضه ومحاوره النظرية وما يمكن أن يثيره من جدل وحوارات وقضايا في إعادة الاعتبار لفن الكوميديا باعتباره فنًا قديمًا له تعريفات وأنواع وأهداف وحبكات وحيل.. وليس فنًا تجاريًا يمارسه كل من يفترض في نفسه «خفة» الدم والظل صحيح أنها مقومات هامة ولكنها ليست كافية لكتابة الكوميديا التي تتطلب مهارة فائقة في إحكام الحبكة وفي حرفية الكتابة التي تتطلب استخدام ماهر لتقنيات الكتابة ووعي كبير بالواقع المعاش علي المستوي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالكوميديا تعيش أساسًا في المكان والزمان التي كتبت لهما، وإذا بعدت عنهما تفقد الكثير من المغزي، فما يُضحك «هنا» و«الآن» لا يُضحك «هناك» أو «في وقت آخر».