منذ أن أعلنت وزارة الثقافة عن عزمها لإقامة مؤتمر للثقافة، والصحف لا تكف عن السؤال عن الرأي في المؤتمر، وعن اقتراحات للمؤتمر، وعن تصورات للمؤتمر، وغير ذلك من الأسئلة التي تملأ بعد ذلك الصفحات الثقافية. ولقد ساهمت في ذلك في البداية أكثر من مرة، ثم أصبحت أقول للصحفيين الشباب إن الموضوع كتب فيه كثيرًا وصار قديما، والأفضل أن ننتظر المؤتمر، ثم تناقشون ما يجري فيه لكن رغم ذلك وجدت نفسي مشاركا في لقاء تقيمه الصحفية سوسن الدويك في قصر الأمير طاز عن الموضوع، زاملني فيه الدكتور محمد حافظ دياب أستاذ علم الاجتماع الكبير والكاتب محمد سيد عيد الناقد وكاتب الدراما ونائب رئيس اتحاد الكتاب كان اللقاء مسجلا لبعض برامج التليفزيون المصرية والعربية، ويدخل ضمن أنشطة صندوق التنمية الثقافية، لذلك كان الحضور أشبه بحضور برامج التوك شو. إذن هو لم يكن ندوة بالمعني المعروف، ومن الطبيعي جدا ألا يحدث بيننا أي نقاش حاد، فنحن الثلاثة تقريبا من جيل واحد وعايشنا الأحداث نفسها ومن ثم كان الاختلاف في اللغة فقط، فبينما كان الدكتور حافظ دياب طبيعيا وهو يتحدث مستخدما اصطلاحات علم الاجتماع، كنت أنا أيضا طبيعيا وأنا أتحدث بلغة بسيطة أقرب إلي طبيعتي ككاتب رواية وقصة، بينما كان محمد السيد عيد يحاول أن تكون لغته فصحي وسهلة وبعيدة عن المصطلحات لم يحدث خلاف في التشخيص للحالة الثقافية ولا في التحديد لما نريد من اضافات لأبحاث المؤتمر المزمع قيامه ومن يحضرونه. ولست هنا لأعيد ما قيل. لكن في نهاية الحوار وجدت نفسي أقول وأنا أرد علي سؤال واحد من الجمهور الكريم عن ما العمل؟. وجدت نفسي أقول إن الأمر في بلادنا محير جدا رغم إنه سهل جدا، فنحن ندخل في نقاشات صعبة والحقيقة أمامنا واضحة، بل كل ما نبحث عن حلول له الآن سبق لنا أن فعلناه بالحلول التي نقتل أنفسنا بحثا عنها، فعلي سبيل المثال نحن نتحدث عن حرية المرأة بينما فعلنا ذلك منذ دعوات قاسم أمين، وكل رواد النهضة المتقدمين فكريا بل فعلته المرأة نفسها حين خلعت الحجاب بعد ثورة 1919، وأصدرت صحفها قبل وبعد ذلك، والتحقت بالجامعة، وشاركت في الحياة السياسية والاجتماعية، وبدا أنه انتهي إلي الأبد الحديث عن عصر الحريم، التي تشغل فيه المرأة مكانا واحدا، هو البيت، الحرملك في البيت، وتكون مجرد متاع للرجل. إلا أن ذلك كله يعود الآن، فمعظم، إن لم تكن كل دعوات المشايخ والفضائيات، ويشارك في ذلك نساء أيضا، تدعو إلي عودة المرأة إلي سجنها، هؤلاء الذين هجموا علي مصر منذ أكثر من ثلاثين سنة بأفكارهم الوهابية المتخلفة، لا ينتبهون مثلا إلي أن المملكة العربية السعودية، أقامت أخيرا جامعة مختلطة صارت تتحدث عنها كشيء يدعو إلي الفخر، وهو كذلك فعلا. بينما نحن الذين فعلنا ذلك منذ أكثر من خمسة وسبعين سنة، ندعو إلي العكس نحن نتحدث عن المواطنة وعن الدولة المدنية باعتبارها معركة مهمة، ونناقش كيف يتم ذلك، بينما فعلناه منذ أوائل القرن الماضي، ومع دستور 1923، ومع إنشاء الجامعة، ولم يستطع الاستعمار الإنجليزي نفسه، أن يدخل المجتمع في خندق الهوية الدينية بل وصار الناس جميعا علي اختلاف أديانهم وأصولهم سواء، منذ محمد علي باشا، الذي بعده انطلقت النهضة التي ساهم فيها الجميع من كل الأديان والأجناس ممن احتوتهم مصر ممن لجأوا إليها كواحة للإخاء والمساواة، أو من أهلها الذين لم يعد هناك تمييز ديني بينهم وتجلي ذلك أكثر من في عصر اسماعيل، ووصل إلي غايته مع ثورة 1919 وبعدها. نحن نتحدث عن الديمقراطية كمعضلة كبري كأننا لم نمارسها من قبل. ولقد كنا نمارسها تحت الاحتلال ، وكانت كل الوظائف السياسية بالانتخاب ابتداء من رئيس الحي حتي رئيس الوزراء نتحدث عن ولاية القبطي للحكم وكان لدينا يوما رئيس وزراء قبطي ورئيس مجلس شوري يهودي مصري وفي أعلي سماواتنا السياسية شخصيات قبطية مصرية رائعة ساهمت في النهضة والسياسة المصرية مثل فخري عبد النور ومكرم عبيد وويصا واصف كان لهم عند المسلمين من محبة وتقدير مثل مالهم عند الأقباط وأكثر. نتحدث عن استقلال الأزهر الشريف وكان لدينا يوما ما أزهر شيخه بالانتخاب وليس بالتعيين، حتي لو كان مع التعيين نص بأنه لا سلطة لأحد في إقصائه، ففي النهاية يظل شيخ الأزهر الذي هو بالتعيين في منطقة حرج، وليس حرا إلي النهاية، مادام معينا نتحدث عن التسامح مع الآخر وكانت بعثاتنا تذهب عبر المتوسط وتعود منذ رفاعة الطهطاوي بقيم الحرية والمساواة، وكنا نفرق بين الحكومات الاستعمارية والتراث الإنساني لشعوبها. مفكريها وأدبائها ونقرأه ونتعلم منه ونختصر طريق اكتساب الحقوق المدنية فننشئ الجمعيات الأهلية والنقابات وغير ذلك مما كان له أكبر الأثر في النهضة المصرية. دون حاجة لثورة تراق فيها الدماء مثل الثورة الفرنسية لنفصل بين الدين والسياسة وهكذا وهكذا فلماذا نعود نناقش كل شيء كأنه لم يحدث من قبل في تاريخنا؟. نحن للأسف ندور في حلقة مفرغة، ويبدو لي أننا استمرأناها وصرنا معلقين في الفراغ بينما الأرض المصرية فيها كل الحلول التي نتعامي عنها، وكأننا مازوشيين نستعذب العذاب كل شيء واضح وسبق انجازه، لكن العبرة في من يقرأ ويعرف ويعترف وينفذ ما دام يملك السلطة في الحكم أو في الحياة اليومية.