حين تري العيون الساحرة للطفل فتحي في بداية هذا الفيلم في «كلوز» وضعه مخرجا الفيلم عمدا تعتقد أنه فيلم عن الطفولة، ولكنك تخرج من الوهم فورا علي لقطات سريعة للحرب وقتال بالأبيض والأسود قبل أن تكتشف أنه عن الإنسان الذي جرحته هذه الحرب ومازالت، حين ترك المتحاربون بقاياهم علي الرمال، فوقها وفي أعماقها، والأعداد لا حصر لها، بل إن ذكرها صعب، ففي جدول ضمن وثائق عديدة قدمها الفيلم عن الألغام والأسلحة التي لم تنفجر في منطقة العلمين بالساحل الشمالي لمصر منذ الحرب العالمية الثانية، وهي ألغام ومفرقعات وضعها الإيطاليون والألمان، كل واحد للآخر، وليس لمصر ناقة فيها ولا جمل، ولكنها ضمن ضحايا هذه الحرب حتي اليوم، في هذا الجدول يتضح أنهم وضعوا في أرضنا ما يزيد علي 5 ملايين لغم، ومن رحمة الله أن أغلبها لم ينفجر، ولكن ما انفجر في الناس يكفي، وهو ما يقدمه الفيلم بأسلوب فني أخاذ، نعم فأنت محتاج للفن حتي تتقبل الكارثة وتصبر علي رؤية أبعادها بدون أن تتوقف عن الرؤية.. وعن المعرفة، الفيلم اسمه The Curse Of The Sands وهو ما يعني مجري الرمال، ولكن أصحابه ترجموه بالعربية إلي «احذر الوقوف متكرر».. وهو من فكرة وإنتاج وتصوير وإخراج ومونتاج أيمن الجازوي وكريستينا بوكيلين وهما شابان تقابلا في روما، حين ذهب أحمد لدراسة السينما هناك، وأصبحا صديقين، وقررا العمل معا في صناعة الأفلام الوثائقية والتسجيلية، ومنذ أيام عرض لهما فيلم عن الشاعر الكبير «أمل دنقل» في فضائية الجزيرة التي صنعا هذا الفيلم من إنتاجها، ولن أدخل في مجال الأسف علي جيش من الشباب المصري، الفنان الباحث عن فرصته للعمل والإبداع يجدها غالبا في الفضائيات العربية، والغربية، ولكني اتوقف عند هذا الفيلم الذي يطرح موضوع ألغام الصحراء الغربية في مصر من كل جوانبه في مدة 40 دقيقة تكتشف من خلالها الكثير مما لا تعرفه حتي لو كنت مهتما بالقضية من الأصل، أما لو لم تكن مهتما، فإنه أي الفيلم قادر علي دفعك إلي دائرة الاهتمام بفعل حرصه علي تنويع أماكن التصوير، وإيفاء كل الأطراف حقوقهم، وحرصه علي ايقاع متوازن سريع مصحوب باختيارات مؤثرة موسيقية وغنائية تنتمي للماضي والحاضر والتاريخ، وأيضًا حرصه علي كل الأجيال، فالفيلم الوثيقة ليس مجرد توقيف مجموعة أفراد، كل واحد يقول ما عنده ويرحل، ولكنه تقديم «حيوات» البشر في علاقتها بما حولها في الماضي والحاضر وجدلها المستمر حول قضية مر عليها اليوم ستون عاما ومازالت حية، فقد انتهت الحرب عام 1948، ولكن ضحاياها في مصر مازالوا يتساقطون أو معرضين للتساقط، فضلاً عن الجيش الذي نراه علي الشاشة، رجال ونساء وأطفال وفتيات، كل منهم ومنهن فقد ساقا أو يدا أو عينا أو الاثنتين، آباء وأمهات وأسر تعيش المأساة، وتعودت عليها، لكنها لم تنسها أبدًا، وكيف يحدث هذا والمعتدون لم يختفوا، وإنما يحضرون كل عام إلي الموقع لإحياء ذكري المعركة وتحية شهدائهم الذين أقاموا لهم مقبرة عظمي عام 1958، يتذكر البعض ما حدث ويرويه لنا، بدو مصريون، وطلاينة، وألمان، هو ممثل برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، وسيدة انجليزية تحكي عن دور انجلترا غير المشرف في التجهيز للمعركة ضد الإيطاليين والألمان بعد موقعة ليبيا التي لم تكسبها، ومسئولون مصريون يحكون عن الوجه الآخر للصورة، حين أصبح سكان المنطقة لا يبلغون الحكومة عن ضحايا الألغام، ويقومون بالعمل وحدهم، يدفنون الضحايا في صمت، أو يعالجونهم في صمت قال واحد منهم إن الحكومة لم تسأل عنهم طويلا والحكاية «مش فارقة»، أما أحد الدكاترة المسئولين فقد قال بأسف إن مصر لم تنضم إلي الدول الموقعة علي اتفاقية إزالة الألغام علي مدي ستة عقود، وانضمت أخيرًا.. وأول ما جناه الضحايا من هذا هو تركيب مجموعة أطراف صناعية لبعضهم بعد فحوصات طبية جادة لنراهم وهم ذاهبون إلي مركز تأهيل المحاربين القدماء بالعجوزة ثم وهم عائدون بالباص والسعادة علي وجوههم، فبعد أن كان الواحد منهم يقفز بالعصا المتكئ عليها بعد فقد ساقه، أصبح يسير علي ساق أخري، وما بين هذه الصورة في الجزء الأخير من الفيلم وبين الصور التي رأيناها في البداية لا يمكن لأحد أن يصدق هذه الدراما الحقيقية لجزء من المصريين الذين مازال البعض منهم من كبار السن، يحكي عن أحداث الحرب من الجانب الذي عايشه وعمل معه، وحيث حكي واحد عن الانجليز وأسلوبهم في العمل وفي تجهيز أرض المعركة، كان يعمل طوال اليوم ويحصل علي غنيمة خمسة صاغ كاملة كانت ثروة وقتها، أما الآخر، الذي عمل مع الطلاينة، فقد حكي عن القائد باولو الذي تولي عمل الافخاخ والشرك الخداعية للجيش البريطاني وعلمه الكثير وقتها، وحدهم الكبار يعيشون مع الماضي بينما يتطلع أبناؤهم وأحفادهم لنظرة أفضل لهم، ولمساعدة أكبر مما حصلوا عليه من الحكومة والأممالمتحدة وكل الجهات التي من الممكن أن تساعدهم، فحياتهم كما هي، وبيوتهم في مهب الرياح ومجاري الرمال المليئة بألغام ومفرقعات لها أشكال جميلة بعضها مغرٍ وهو ما طرح سؤالاً حول مسئولية الضحايا أنفسهم في مأساتهم وحيث يري البعض أن الكثيرين منهم يجمعون بقايا الأسلحة القديمة برغم علمهم بأنها قد تكون ألغاما، لكن البعض الآخر يري أنها مسئولية وسائل الإعلام التي لم تصل إليهم بالقدر الكافي ولم تهتم بهم.. الفيلم يتركنا بعد أن طرح كل الأسئلة، وألقي بالكرة في كل الملاعب ولم يترك زاوية بدون أن يسدد فيها.. ولهذا استحق ذهبية مهرجان الجزيرة الدولي السابع الذي عقد في شهر أبريل الفائت.. السؤال الآن: لماذا لا يشتريه التليفزيون المصري ويعرضه لنا.. ومن الأولي بمشاهدته منا؟ ولماذا لا يكون شراؤه وعرضه هو باقة ورد لصناعه، خاصة ذلك الفتي النحيل أيمن الجازوي الممتلئ بالحب والرغبة في صنع أفلام عن مصر التي لا يعرفها الكثيرون.. دعوا الناس تراه وتحكم فالحياة ليست كلها أفلام روائية ومسلسلات بكائية.