تظل مشكلة المرور، وما يترتب عليها من تداعيات، واحدة من أعقد المشكلات التي تواجه العاصمة حالياً.. والمشكلة ليست في حجم الوقت الذي يضيع من حياة سكان العاصمة، والذي يقدر بملايين الساعات سنوياً، وهي ساعات كفيلة بإنجاز عديد من المشروعات الكبري .. ولا بحجم الوقود المستهلك، والذي يقدر بمليارات الدولارات، والذي لو تم توفيره لأمكن علي سبيل المثال إصلاح التعليم في مصر .. ولا في مقدار التلوث الناتج عن عوادم السيارات، إلي الحد الذي تم اعتبار القاهرة فيه واحدة من أكثر المدن تلوثاً في العالم .. وما ينتج عن ذلك من مليارات الجنيهات التي يتم إنفاقها للعلاج من كثير من الأمراض المترتبة علي هذا التلوث، والتي لو تم توفيرها لأمكن توسيع مظلة التأمين الصحي لأكبر قطاع من السكان، ولأمكن تحسين الخدمة الطبية في عدد كبير من المستشفيات ... ولكن المشكلة فيما يترتب علي ذلك من "تغيير في المزاج العام " للمصريين، وجعله يميل إلي السوداوية، وفي شعور كثير من المواطنين في القاهرة بالضيق العام،وبالاختناق .. ولعل ذلك هو ما دعا الرئيس مبارك، رغم متابعته وانشغاله بعدد كبير من قضايا الأمن القومي خلال الأسبوع الماضي، إلي عقد اجتماعين موسعين لدراسة الموقف المروري ... ورغم توافر عدد كبير من "المسكنات" التي يمكن من خلالها تخفيف شدة الزحام وحالة الاختناق .. ورغم وجود عدد كبير من "المحاور المقترحة" لتوسيع شرايين العاصمة، ولتحقيق الانسيابية المرورية فيها، بعد حالة " التجلط" التي تمر بها .. فإنني أعتقد أن الحل الوحيد يكمن في إجراء عملية جراحية سريعة ودقيقة لتفريغ "بطن العاصمة" من كثير من الأنشطة التي لا لزوم لها، ونقل عدد منها إلي المحافظات أو المدن الجديدة ... إذ بدون هذه العملية تظل الجهود المبذولة مجرد محاولات للتخفيف أكثر منها محاولات للعلاج... إضافة إلي ذلك، فإن هناك حاجة ماسة إلي تفعيل قانون المرور الجديد، والذي يحتوي علي بنود ومواد كفيلة بالقضاء علي كثير من أبعاد الزحام، والذي صاحب تطبيقه نجاح كبير في التخفيف من حدة المشكلة .. تفعيل القانون واستمرارية العمل بما فيه من أحكام وشروط ضرورة للتسريع بهذا الحل.. غير أنه لابد من الإشارة إلي أن هذا القانون لن يكون أيضاً مؤثراً ما لم يتحول إلي ثقافة جمهور، وإلي جزء من "النظام العام" الذي يحكم سلوكياتهم وأفعالهم .. ولن يكون مؤثراً أيضاً ما لم يكن جزءاً من عمل المحليات وحاكماً لها .. فعلي سبيل المثال، يقام في شارع الهرم حالياً عدة "مولات" تجارية كبري.. ليس لها بطبيعة الحال امتدادات تسمح باستيعاب السيارات القادمة إليها.. وهي كفيلة بإغلاق الشارع في حال افتتاحها العام القادم... وكان من المتصور أن تراعي المحليات تأثير التصريح ببناء هذه المولات علي حركة المرور وعلي تدفق السيارات .. إن تفريغ بطن العاصمة، وتفعيل قانون المرور، وجعل المرور محكاً من محكات تقييم المشروعات الجديدة في العاصمة، أصبح ضرورة كبري، وهي ضرورة تحتاج إلي شجاعة في اتخاذ القرار، وجرأة في مواجهة ما يترتب عليها من نتائج ...