بالرغم من دوره المحوري في إدارتي ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، كمستشار للأمن القومي في البداية ثم كوزير للخارجية بعد ذلك، لم يقدم هنري كيسنجر علي الإطلاق لأطراف الصراع في الشرق الأوسط خطة سلام أو مقترحات لتسوية نهائية، وفي المقابل تفاخر بقيامه ببلورة إستراتيجية متماسكة لم تقتصر فقط علي التعامل مع المعطيات المحلية والإقليمية للصراع العربي-الإسرائيلي، وإنما امتدت لتشمل أبعاده الدولية المتصلة بصراع النفوذ بين القوتين العظمتيين علي المسرح الدولي آنذاك في المنطقة. فاستناداً إلي اعتقاده الراسخ بأن كافة المبادرات الأمريكية التي فشلت من قبل قد صبت في خانة المصالح السوفيتية ودعمت من مواقف الأنظمة "المتشددة"، دافع كيسنجر عن ضرورة تجنب إقدام بلاده علي طرح مبادرات جديدة قبل أن تدرك الدول العربية أن التقدم الذي قد يمكن إحرازه يجب أن يكون فقط من خلال واشنطن، ومنذ ذلك الحين برز مفهوم العملية السياسية التي يتم تنفيذها علي مراحل علي مدار الوقت تحت رعاية أمريكية ووفقا لدوافع إستراتيجية حكمتها بشكل رئيسي العلاقات الدولية علي مستوي القمة، وبعبارة أخري، أضحت التسوية آنذاك أسيرة لحسابات الإستراتيجية الكونية لقوي عظمي تتصارع مع أخري لفرض سيطرتها علي الإقليم مستفيدة من صراعاته وتناقضاته فضلا عن نقاط الضعف في إستراتيجيات الخصم ومحدودية أدواته في التأثير علي مسار الأحداث. وعلي الرغم من النجاحات الجزئية التي حققتها هذه الإستراتيجية، فإن حقيقة استمرار الصراع في المنطقة، واكتسابه أبعادا جديدة من جانب، وتلاشي بُعد الصراع الدولي الذي برر بشكل كبير تبني واشنطن لسياسة الجمود في المنطقة لإجبار الأطراف العربية علي الابتعاد عما عرف آنذاك بالمعسكر الشرقي، كشرط ضروري للتوصل إلي السلام الأمريكي من جانب آخر، يطرح تساؤلات حاسمة حول مدي مصداقية مقولة هنري كيسنجر في ظل المعطيات الدولية والإقليمية الحالية، والمأزق الذي تجد فيه الإدارة الأمريكية نفسها في منطقة حيوية للأمن القومي الأمريكي تتزايد فيها نُذر الحرب والتصعيد دون أن يكون في قدرة واشنطن تحقيق اختراق حقيقي يبرهن علي أن المقولة سالفة الذكر مازالت علي نفس القدر من الصحة بعد مرور أكثر من أربعين عاما علي إطلاقها، وفي هذا الخصوص يمكن الإشارة إلي بعض النقاط التي قد تساعد علي فهم هذه الإشكالية: 1- إن مفهوم «السلام الأمريكي» قد مثل ترجمة طبيعية لتوجهات قوي عظمي وجدت نفسها في وضعية التنافس مع أخري تنافسها النفوذ، وبعبارة أخري، فإن هذه المقولة استجابت أساسا لمعايير السياسة الدولية أكثر من انطلاقها من توجه حقيقي لتحقيق السلام الشامل والعادل في المنطقة. 2- مثلت النجاحات التي حققتها الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة في ظل هذه الإستراتيجية مدخلا رئيسيا في إقناع الأطراف المعنية، سواء التي انخرطت في عملية التسوية وفقا للمقترب الأمريكي أو تلك التي نأت بنفسها عنها، بمصداقية تلك المقولة، وإن اختلفت درجة الاقتناع بمدي قدرتها علي الذهاب إلي مرحلة التسوية النهائية التي تلبي حتي ولو الحد الأدني من المطالب العربية والتي لم تعد تطالب بتدمير دولة إسرائيل مكتفية بالحصول علي الأراضي التي تم احتلالها في حرب يونيو عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية تعيش في سلام جنبا إلي جنب مع الدولة العبرية وتسوية القضايا المتصلة بذلك وعلي رأسها قضية اللاجئين. 3- إن تلاشي العدو الخارجي الذي تم رسم تلك الإستراتيجية أساسا للتعامل معه في المنطقة، قد أدخل الدبلوماسية الأمريكية في دائرة الانتقاد؛ حيث لم يعد هناك ما يبرر من وجهة النظر الإستراتيجية تبني سياسة الجمود، في وقت اتجهت فيه المواقف العربية نحو الاعتدال وسعت إلي تسوية سياسية تبلورت بشكل تدريجي ملامحها لتنكشف بوضوح في إطار مبادرة السلام العربية التي طرحت رؤية متكاملة للتسوية الشاملة. 4- شكل الطريق المسدود الذي وصلت إليه جهود التسوية علي المسار الفلسطيني نقطة انكشاف واضحة لمصداقية المقولة الأمريكية؛ حيث لم تتمكن واشنطن من أن تحقق السلام علي الرغم من تفردها بإدارة ملف التسوية وقدراتها المفترضة علي التأثير في مساراتها وهي نفس القدرات التي كانت السبب في إقناع الأطراف العربية بصحة المقولة الأمريكية وضرورة التعاطي معها. 5- باستثناء اتفاقية فض الاشتباك علي الجبهة السورية والتي تم توقيعها عام 1974 لم تتمكن الدبلوماسية الأمريكية من تحقيق أية اختراقات علي هذه الجبهة وظلت حالة اللاسلم واللاحرب تخيم عليها، مع تزايد احتمالات انفجارها من وقت لآخر وفقا لحسابات إقليمية لم تتمكن الولاياتالمتحدة من التأثير فيها بل أضحت، مع وجودها العسكري الكثيف في المنطقة، طرفا مباشرا فيها. 6. نظرا لعدم إمكانية تحقيق السلام الأمريكي، عاشت الجبهة اللبنانية حالة مستمرة من التصعيد مع بروز حزب الله كتنظيم يرفع شعار المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة اللبنانية، ويدعم مقولة الكفاح المسلح الفلسطيني للحصول علي الحقوق في ظل تلاشي إمكانيات التسوية السياسية، مستندا في ذلك إلي الفشل المتكرر لعملية السلام التي كان من المفترض أن تلعب فيها واشنطن دورا حاسما تنفيذا لمقولة أن السلام يمر عبر واشنطن. 7. أن التطورات التي شهدتها الساحة الدولية في العقد الأخير من القرن الماضي من جانب، وعدم القدرة الأمريكية المسيطرة علي مقاليد القرار العالمي علي المساهمة الجادة والفعالة في صناعة السلام في الشرق الأوسط من خلال التعامل الموضوعي مع ملفاته وفقا لمتطلبات الشرعية الدولية من جانب آخر، كشفا بجلاء عن البُعد الذي نجح هنري كيسنجر بمهارة في حجبه عن الأنظار وإخراجه من دائرة التحليل الجاد للمعطيات وسيناريوهات المستقبل، وهو الجانب الذي يجد تفسيره في الضعف الهيكلي الكامن في العلاقة القائمة بين إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية والتي وصفها مساعد وزير الخارجية الأسبق، جورج بال، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، بعلاقة "التبعية دون مسئولية" والتي بررت رفض إسرائيل بشكل مستمر سواء للاحتجاجات الأمريكية أو جهود واشنطن لتحقيق تقدم في العملية التفاوضية، في ضوء تكيف القادة الإسرائيليين عبر فترة طويلة من الزمن علي وضعية الحصول علي المساندة الأمريكية لمواقف بلادهم، وتقبل واشنطن لذلك علي أنه وضع طبيعي. في ضوء ما تقدم، يتضح أن مقولة "السلام يمر عبر واشنطن" إن كانت صحيحة، فإنها غير مطلقة، وقد يكون من المفيد أن تخضع لإعادة الصياغة بهدف إضفاء المزيد من الدقة عليها بالقول بأن "السلام يمر عبر طبيعة العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية"، ولعل هذا الطرح الواضح يمكن استثماره في التحركات المختلفة للضغط علي الدبلوماسية الأمريكية، سواء بشكل عربي وفلسطيني مباشر، مثل مطالبة الرئيس عباس واشنطن بفرض السلام، أو من خلال القوي الدولية الأخري، كما كان عليه الحال خلال زيارة الرئيس الروسي الأخيرة لدمشق والتي وصف خلالها الجهد الأمريكي لتحقيق السلام في المنطقة بأنه غير كاف.