الدكتور يونان لبيب رزق رحمه الله، مؤرخ مبدع يتسلل برقة إلي قلوب قرائه، إنه يدعو ضيوفه إلي مائدة التاريخ ليس فقط لكي تزداد معارفهم، بل لفهم لحظات الحاضر علي ضوء أحداث الماضي، وهو يحرص مثل ول ديورانت المؤرخ الأمريكي العظيم علي أن يكون ممتعا وهو ممتع بالفعل، ولقد حكي لنا بعض حوادث الدجل التي نشرتها جريدة الأهرام في الثلاثينيات، كما حكي قصة دجالة في عهد محمد علي الكبير، أقنعت الناس أنها صديقة لشمهورش كبير الجن والعفاريت وأنها قادرة علي استحضاره "فالتف الناس حولها وأصبح الضباط والرؤساء من مريديها، وكانوا يقولون إنها تستخدم الجن، ولما استفحل أمرها وخشي محمد علي خطرها، استدعاها إلي قصره وأظهر لها رغبته في الحديث مع جنيها" تعال نسترجع المشهد.. قاعة في القصر، عدد كبير من الحاشية، يطلق البخور وتنطفئ أنوار المشاعل، تعاويذ وكلمات غير مفهومة، أصوات فحيح وهسيس ثم صوت الجن آت بالطبع من بطن المرأة: شمهورش يقرئك السلام ياولي النعم... والله عندما استدعتني هذه السيدة المباركة، تركت ما في يدي في الحبشة وجئت علي الفور.. مسافة السكة.. طلباتك مجابة ياباشا... ولكن لكي تحل البركة عليك وعلي أهلك وعلي أهل مصر، سأمد إليك يدي الآن لكي تطبع عليها قبلة من شفتيك الكريمتين.. غير أن الباشا لم يقبل يد شمهورش، بل أمسك بها بقوة وصاح: اضيئوا المشاعل.. وعندما أضاء المكان، رأي الجميع أن اليد كانت يد الدجالة التي حينما رأت انكشاف حيلتها توسلت إليه أن يعفو عنها، ولكن الباشا أمر بإغراقها في النيل وسط احتجاجات كبار المسئولين في الحاشية الذين استاءوا من ذلك ورأوا فيه "خروجا علي الدين وتحقيرا لمبادئه ( ؟! ) غير أن الباشا قال لهم: إذا كان لها حقا أصدقاء من الجن فسينقذونها حتما من الغرق، وإذا كانت مجرد دجالة.. فستلقي جزاءها العادل. هي حكاية مسلية كما تري، ولكن كل حكايات الدجل المسلية تدفع عقلي للدوران، لماذا تزايدت وزايدت الدجالة إلي الحد الذي تطلب فيه من الباشا تقبيل يد الجن وهو ما أدي لكشفها؟ ولماذا استاءت الحاشية عندما اتضح أمامهم بالدليل القاطع أنها دجالة ؟ وكيف رأوا في قرار الباشا (خروجا علي الدين وتحقيرا لمبادئه) ما صلة الدين بالدجل والدجالين؟ الواقع أن الدجال لا يسعي فقط لخديعة السلطة السياسية أو مصادقتها علي ما يمارسه من خداع، بل هو يسعي لأن تنضوي السلطة تحت لوائه، وهو ماسيضمنه حتما عندما تقبل يده دلالة علي التسليم الكامل، هو يريد أن تكون السلطة بكل ما تملكه من قوة تحته وأن يكون هو فوقها، هو لا يريد ممارسة السلطة لعجزه عن تحمل أعبائها، ولكنه يريد أن يمارسها الآخرون لحسابه، المطلوب منه فقط أن يمنحهم البركة، ولكنها أغفلت شيئا واحدا هو أن الباشا كان شخصا مختلفا عن مريديها. الدجل ليس مجاله عالم الجن والعفاريت والغيبيات فقط، الدجل يعرف طريقه إلي كل المهن، بمعني أدق، الدجل يعرف طريقه لكل مهنة، هناك الصنايعي الدجال، والكاتب الدجال والمثقف الدجال والفنان الدجال والسياسي الدجال. و هو في أي مجال أو مهنة، يخشي الكشف عن حقيقة أي دجال في مجال آخر، لأن ذلك يذكره علي نحو غريزي باحتمال انكشافه هو. الكشف عن الحقيقة في أي مجال، هو العدو الحقيقي لكل الدجالين في بقية المجالات.