أشعر في كثير من الأحيان أن ما أقوله أو أكتبه قد مر أمام عيني من قبل مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًا وأنه قد بقي واستقر في زوايا تلافيف المخ دون تبويب وربما تستدعيه الذاكرة عن غير قصد لكي أستخدمه تارة أخري ويشبه ذلك ما تفعله الحيوانات المجترة عندما تستعيد مضغ الطعام علي مهل والتشبيه مع الفارق طبعا بين الطعام والكلام. وعندما قررت الكتابة عن بعض كلماتي التي سبقت صياغتها في موضوعات متتالية ومتكررة قالها أصحابها من قبل واطلعت عليها ذات مرة ولكن لم أتخيل أن نفس الكلمات ربما أكتبها دون الالتفات إلي سابقة الأعمال التي تضمنتها من قبل!! طبعا هذا شيء رائع أن تأتي نفس الكلمات والموضوعات بفارق زمني وأشعر بمدي الأهمية الفكرية التي تمنحني فرصة تكرار نفس المفردات والجمل وأحيانًا يقال الكثير عن توارد الخواطر ولكن الأمور هنا تخطت ذلك بكثير ولقد مررت بكثير من المواقف التي بها توارد الخواطر بشكل يدعو للتأمل. فعلي سبيل المثال في السبعينيات نشرت قصة قصيرة تحت عنوان «خرج ولم يعد» وبعدها بعدة أشهر كان هناك فيلم بنفس العنوان من بطولة الراحل فريد شوقي، فقط العنوان متشابه، ولقد تكررت هذه الملاحظة معي ومع غيري من الكتاب وربما تتوارد خواطر الموضوع مع اختلاف العناوين والمضامين، ولهذا برزت قضية الملكية الفكرية حتي يكون الكلام له تسجيل وتدوين وتوثيق وعادة ما يبقي في ثنايا الذاكرة كلما لقي ترحابا من العقل فأبقاه أما غير ذلك فهو «كلام دشت» ليس له معني ولا داعي للحفاظ عليه. علي سبيل المثال استعدت مؤخرًا كلمات الأديب يحيي حقي في مقالاته التي نشرها في منتصف الستينيات والتي تم جمعها في كتاب بعنوان «معني الفن» ولقد تنوعت كتابات هذا الأديب العملاق بين كل الموضوعات ما بين الموسيقي وفن التشكيل وبين العمارة. ففي وقتها كتب الرجل قائلاً «أنني شرقي مصري بلدي عيار 24»، حيث لا جديد من وقتها في كل الموضوعات وحتي الآن فلقد كتبنا كثيرًا عن ضعف الأجور وثبات المرتبات وتحرك الأسعار وارتفاع القيمة النقدية ولكن ما كتبه الأستاذ يحيي حقي أبلغ من أي كلام وقتها قال الرجل فيما هو منشور في جريدة المساء في 1/11/1965: (كانت الأجور والأثمان وقيمة ورق النقد في حدود الرقم العشري، وفجأة قفز إلي المئات، ثم الآلاف، إذا زادت قيمة ورقة النقد زاد حجمها، وكلما أضيفت الأصفار عليها أضيفت الأصفار ذاتها علي الأثمان والأجور، فكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا. ما كان أسهل أن تصبح مليونيرا لو كانت لديك مجموعة من أوراق النقد هذه من ذلك العهد إلي اليوم لأدركت مقدار عبث رجال الاقتصاد برجل الشارع، لخبطوا غزله الله يلخبط غزلهم، وها هي فرنسا قد حذفت أخيرًا صفرين لا صفرا واحدا من ورق النقد في محاولة للرجوع إلي المعقول. وعند الكلام عن الغناء والطرب وما حولهما من انتقادات نجد أن ما نقوله عن تلك المأساة في الغناء والطرب لا تقل مطلقا عن واقع الحال، الموسيقي من الفجر إلي منتصف الليل ما هي إلا أغان رتيبة مملة متشابهة من سنوات هزيلة وقبيحة وكيف أتيح الغناء لمثل هذه الأصوات الفجة غير المهذبة لا فن ولا حلاوة ولا خفة دم!!) ويكمل قائلاً: زال الفرق بين الأغنية في ركن الأطفال وركن الرجال، وزاد ميل المغنيات إلي اللعب بورقة الغريزة الجنسية كأنها تغني من تحت لحاف وبطانية؟! وعند استعراض آثار الفساد في المجتمع يقول: «سبق القول بأنه كما حدث في القرون الوسطي بأوروبا حين تضعضعت سلطة رؤساء الدول فإن النبلاء المحيطين بالفراعنة استولوا علي السلطة وبدأ عهد من الفوضي يشبه إلي حد ما عهد الإقطاع الأوروبي. تحطم الاستقرار الذي عرفته الدولة القديمة وسادت مصر موجة من الخلل والعنف والمجاعة وكان أكثر شيء هال المصريين هو تقلب حظوظ الرجال».. إلي آخر المقال. وقديمًا كنت أخلط بين توفيق الحكيم وبين يحيي حقي ربما للتشابه الشديد في المسار الأدبي لكل منهما أو للتشابه بين أسلوبيهما في الحكي وربما للتشابه في لبس البيريه وطول القامة وربما الوزن أيضًا!! هناك بعض من الكتاب من النوع الذي يشبه في كتاباته بائعي الكشري في ميدان العتبة قديمًا أو محطة المرج حديثًا وربما في السوق الفرنساوي في العتبة أو المنشية يغريك بأن تأكل ولا تلتفت إلي الرقابة الداخلية للغة العربية أو الرقابة الخارجية للحزب الحاكم وأخشي أن أذكر أسماءهم في العلن حتي لا تلحقهم مصلحة الضرائب ولكني أدعو عليهم قائلاً الله يخرب بيتهم شافعي ومالكي وأبو حنيفة لما يقولونه وأريد أن أقوله أنا أيضًا ولكن لا أجرؤ حرصًا علي حالة الضغط والسكر وباقي أعراض الشيخوخة التي يعاني منها معظم الشعب المصري وأنا مثال لهم، أود لو أنني كتبت هذا الكلام ولو قبلهم بنصف ساعة أو في عدة أسطر ولا شيء يهم بعد ذلك ما دامت النية سليمة وكذلك ياقة القميص وما تحتها من ممتلكات شخصية؟! وأنا شخصيًا أتابع كل ما يكتبه أصحاب الرأي في أغلب الصحف المصرية حتي أكون علي مقربة من الموضوعات المطروحة وحتي لا أغرد خارج السرب بافتراض أنني بلبل حيران في هذا المجتمع ربما حاول عبدالوهاب من قبل أن يدعوه للعزف معه في معزوفة مصرية خالصة. وعلي سبيل المثال هناك ما يكتبه محمد أبو كريشة في صفحة الرأي بجريدة الجمهورية، وما يكتبه عميد الكتابة الساخرة ابن إسكندرية البار أحمد رجب في نصف كلمة في الأخبار، وهناك مصطفي الخولي ابن سبرباي وما يقوله في روزاليوسف بل هناك الكثيرون ولكن كل يغني علي ليلاه وعلي نجواه بل وعلي كيف كيفه لعل وعسي أن تكون كلماتي وما أشبه بها من خير الكلام!!