المسرح القومي في بلد ما ليس مجرد قاعة يجلس فيها المتفرجون وخشبة مسرح يتحرك عليها الممثلون بل هو يتخطي ذلك بكثير، تستطيع الاطلاع علي الاتجاهات الفكرية والمواقف السياسية لكل الكتاب من خلال قراءة انتاجهم في الصحافة أو في بقية الأجناس الأدبية. أما في المسرح فأنت تقفز داخل قلوب الناس وتسبح داخل عقولهم في رحلة مبهجة من خلال العرض المسرحي. من الممكن أن تخدعك حركة إعلامية قوية، أما المسرح فهو عاجز عن خداعك حتي لو أراد له البعض القيام بهذا الدور. كلمة القومي ليست ضرورية لوصف مبني المسرح، المهم هو ما يقدمه وأقصد بذلك تلك الأعمال القادرة علي النفاذ إلي أعماق المجتمع واستحضار ما فيها من أفكار وانفعالات وعواطف ثم إعادة عرضها علي الناس من خلال الدراما وقوامها فن التمثيل النبيل. والمتفرج لا يعلم شيئا عن العاملين في المسرح، هو لا يحتك بهم ولا يراهم فعملهم في الكواليس يتم بعيدا عن العرض المسرحي. غير أنهم شركاء حقيقيون في العرض المسرحي. من الصعب عليك أن تصدق أن دور العمال علي خشبة المسرح لا يقل أهمية عن أدوار أبطاله ولكن هذا هو ما أعرفه عن المسرح الذي عملت في كل مجالاته، كممثل ومخرج ومؤلف مسرحي أما ما أراه أكثر أهمية فهو عملي في بداية الستينيات كمدير خشبة مسرحية في مسرح القاهرة للعرائس الملاصق للمسرح القومي. هذه الجيرة جعلت العرائسيين أكثر قربا من ممثلي المسرح القومي وعماله. في تلك الأيام بدأت أتنبه إلي أنه لا يوجد خط فاصل بين الممثلين وعمال المسرح، كل له عمله والكل مزهو بعمله، إنه الزهو المسرحي الناتج عن الوعي بقيمة ما يقدمه المسرح للناس، رقبة العرض المسرحي في أيدي هؤلاء العمال هذا ما يعرفه جيدا قدامي المخرجين والممثلين. لم يكن المسرح قد تحول بعد إلي سبوبة عمادها البلاهة والعبط والغباء. كنت مسئولا في بداية الستينيات عن فرقة" الأطفال" في مسرح القاهرة للعرائس، وبعد ذلك عن فرقة الفلاحين، عن إدارة الفرقة، وإدارة خشبة المسرح أثناء العرض، اختارني لذلك مدير المسرح في ذلك الوقت الأستاذ راجي عنايت، ثم كلفني بمهمة من أجمل المهمات في حياتي وهي مسئولية العروض في مراكز مصر وقراها، من الاسكندرية إلي أسوان، أعطاني جدولا بالأماكن والتواريخ وطلب مني تنفيذه. وهو ما حدث بالفعل، غير أنني أشهد أنه لولا إخلاص عمال المسرح وحماسهم للعمل لما كان ممكنا لي القيام بهذه المهمة. من النادر أن تجد مسرحا صالحا للعمل وعليك في كل مكان أن تختار مكانا تقيم فيه المسرح ثم تركب فيه أدوات الإضاءة والديكور وبعد العرض مباشرة يقوم العمال بفك المسرح ثم تحميله علي عربة نقل ثم الذهاب لتركيبه في قرية أخري ربما في نفس الليلة ثم تعيين حارس منهم عليه لحراسة المسرح والمعدات. لا شيء يوطد الصداقة بين الناس مثل وحدة الهدف وكان الهدف هو تقديم عرض مسرحي جيد للأطفال. كان العرض من تأليف صلاح جاهين وأخرجه صلاح السقا وكان الملحن هو محمد فوزي، أعظم العناصر الفنية علي أرض مصر صنعت هذا العرض فكان من الطبيعي أن نشعر بالزهو المسرحي وأن أي إهمال أو تقصير يعتبر ضربا من الكفر. خمسون عاما تقريبا مرت علي تلك المهمة المجهدة الجميلة، يا لجمال الأيام ويا لجمال المسرح.. ويالتعاسة وبؤس هؤلاء الذين لم يحافظوا عليه وأضاعوا أعظم مصادر البهجة في مصر.