في عام 1975 كتبت قصة قصيرة بعنوان: تعليقات من الحرب، نُشرت ذلك الوقت في المُلحق الأدبي بمجلة الطليعة التي كانت رمزاً لليسار المصري، وكان مُلحقها الأدبي رمزاً للأدب الجديد في مصر.. جاءت هذه القصة بعد زيارة لي مع أحد وفود الشباب إلي ما تبقي من خط بارليف بعد أن أصبح الدخول إلي سيناء متاحاً، و أذكر أن جانباً من أحداث القصة كان يدور بين جنديين مُحاصرين في الجيش الثالث في أحد الخنادق، أحدهما رغم الحصار فخور بما تم إنجازه، والثاني فخور أيضاً لكنه يقول: أخشي أن يأتي بعد ذلك مقاولون، وتجار خردة يستولون علي هذا الانتصار. لم يكن الرئيس السادات قد بدأ سياسة الانفتاح الاقتصادي بعد، ولعله كان قد أعلنها، أنا هنا أتذكر ولا أعود إلي أوراقي، كنت أعرف مبكراً جداً أن تطور المُجتمعات تحكمه قوانين ليس من بينها الفوضي، وحتي لو كانت هناك فوضي: فهي تحدث لفترات محدودة مع الثورات. لكن الذي حدث و كُتب فيه كثيراً مع سياسة الانفتاح أنه كانت هناك فوضي، ظهرت في كم الهاربين بالقروض، وكم المستوردين لبضائع فاسدة، وأصبح شعار العمل الحر أو الرأسمالية كأنه رد فعل عشوائي علي الاشتراكية ولا تنظمه قوانين، رغم أن هناك قوانين ظهرت معه لتنظيمه.. لكن غلب علي رجال هذا العصر وخاصة في بداياته التسرع والرغبة في جني أكبر الأموال في أقل وقت لكن هذا ليس ما أريد أن أتحدث فيه بشكل أساسي . وأعود إلي سيناء التي في تاريخ مصر لها مكانة مُقدسة فضلاً عن مكانتها الاستراتيجية والاقتصادية، والتي انتبه الجميع بعد هزيمة 67 إلي أنه يجب أن يكون تعميرها هو الهدف الأساسي للسياسة المصرية بعد النصر. عادت سيناء إلينا، وسمعنا عن خطط كثيرة لتعميرها، والحاصل أنه قد جرت حركة إعمار كبيرة لا يستطيع أحد أن ينكرها، و بالذات في جنوبسيناء وشيء ما في شمالها. فعدد الغرف السياحية المُتاح هناك الآن لا يقل عن عدد الغرف السياحية في مصر كلها، وأصبحت هناك أماكن كانت في يوم من الأيام صحراء، فصارت مراكز جذب للسياحة من كل العالم مثل: شرم الشيخ ودهب وطابا والغردقة والعريش وغيرها، ولكن ظل الأمل في الاقتصاد بعيداً.. هناك بالتأكيد مشروعات اقتصادية لكن لا تزيد علي عدد قليل، ولا تتناسب مع مساحة سيناء كما أن الزراعة حتي الآن لم يتم التوسع فيها بشكل كاف. لا أريد أن أقول بشكل يذكر.. وبعيداً عن الفكرة التقليدية الصحيحة إن تعمير سيناء يجعلها مُستعصية علي الاحتلال، إذا حدث لا قدر الله أن اشتعل الصراع بيننا و بين إسرائيل، لم يعد هذا المعني كافياً لأنه علي الفور يتم استدعاء معاهدة السلام وينتهي الحوار. الشعار الذي يجب ان يرفع هو إجابة عن سؤال لماذا حقاً لا نستفيد اقتصادياً إلي جانب السياحة طبعاً من سيناء؟.. التي تؤكد الدراسات إنه يمكن زراعة الكثير من أرضها لتوفر المياه الجوفية، و يمكن العثور علي كثير من المناجم فيها.. لماذا لا تكون سيناء الواقعة بين مياه من كل ناحية شمالاً وجنوباً و غرباً وعائمة علي ماء، مكاناً يستوعب عدداً ضخماً من سكان مصر؟ هل ركنا الي فكرة الاستثمار السياحي فقط؟ و هل يصح الآن أن نقرأ في الصحف أنه لا تزال سيناء طريقاً للتهريب وأن بها طُرقاً سرية لا يزال لا يعرفُها إلا البدو؟ هل هذا يناسب دولة كمصر تستطيع في عدة أيام أن تُقدم خريطة كاملة لكل شبر من سيناء؟ وهؤلاء البدو الذين يتهمون دائماً بالتهريب أو بغيره، هل يصح أن يظلوا حتي الآن مُهمشين يعيشون علي حياتهم التقليدية؟ وهل هناك من سبيل بأن يذوب البدو في نسيج المُجتمع المصري من غير التنمية الاقتصادية والزراعية واستخدامهم في هذه التنمية؟.. وتتغير طرق الحياة في سيناء كلها. لقد ذهبت إلي سيناء بعد ذلك مرات كثيرة بحكم عملي السابق في الثقافة الجماهيرية، وأمضيتُ أياماً وأسابيع في مُدنها، وكانت كلها أياما خاصة باحتفالات ثقافية، وفي كل مرة أذهب جنوباً أو شمالاً، أجد صحراء من كل ناحية حتي أصل إلي مراكز العمران.. آخر زياراتي كانت منذ عامين للاشتراك في ندوة بمدينة الطور ومدينة شرم الشيخ، وفي مدينة الطور شاهدت مشهداً غريباً جداً لم يكن يخطر علي بالي أبداً: عمارات من ستة أدوار مبنية علي نظاما المساكن الشعبية في القاهرة، قلت: يا إلهي كل هذا الاتساع ولم يفكر أحد في البناء علي طريقة - حسن فتحي - ومثل القاهرة تماماً وجدت الماء علي الجدران يتسرب من دورات المياه وينشع عليها، مثل القاهرة تماما أو الجيزة لا إخلاص في البناء، لا الذي بني ولا الذي استلم، وسرعان ما زال اندهاشي عندما وجدت ازدحاماً في أحد الشوارع علي نافذة صغيرة، لم يكن طويلاً مثل القاهرة أو الإسكندرية أو الجيزة، لكنه طويلٌ بالنسبة لمدينة تعداد سكانها ثلاثين الفاً فقط لا غير. قيل لي: هذا فُرن، وهذا زحام علي العيش؛ فسألت: كيف يكون هنا زحامًٌ و تعداد البلدة صغير جداً؟ قيل لي: إن ما يصل من الدقيق لا يكفي، وضحك مُحدثي وقال: يبدو أن الأساس هو الزحام وليس الخبز في كل مصر.. وفكرت أن السياسة التي تحكم سيناء هي وجه آخر من السياسة التي تحكم القاهرة أو أياً من المدن و كأن الطبيعة الخاصة بالمكان ليس لها دور.. وبدا لي أن هناك سراً ما في أن يكون التركيز علي سيناء سياحياً أكثر من أي شيء آخر .. أنا شخصيا لا أعتقد أن هناك سراً أو أن إهمال سيناء صناعياً وزراعياً مقصود، وأعتقد جازماً أن الذهاب إلي سيناء مشوار علي المسئولين.