بداية ولتحديد ما نود طرحه في هذا المقال - نشير -وبإيجاز - إلي المقصود بمفهوم «الثقافة السياسية»، حيث يقصد به مجموعة الاتجاهات والمشاعر والأفكار والآراء والاتجاهات، المعارف والمعلومات، القيم والأخلاقيات التي تنظم وتحدد جميع الممارسات والإجراءات والعمليات السياسية: الرسمية وغير الرسمية، وتزويد الأفراد والجماعات، الهيئات والمؤسسات بالقواعد والمعايير، الأسس والقيم اللازمة لتنظيم وتحديد السلوك السياسي، وصنع واتخاذ القرارات السياسية في مختلف المؤسسات التشريعية والتنفيذية». ومن المعروف علمياً أن هذه الثقافة محصلة للتراكمات التاريخية، وأساليب التنشئة السياسية داخل المجتمع، كما أنها تشمل كل أنواع الثقافة السياسية لكل الفئات، وللجماهير والصفوة، ومن ثم فإنها أشمل وأوسع من مفاهيم ثقافة النخبة، أو النظام السياسي، كما أنها تتشكل وفق الاتجاهات السائدة في المجتمع: إيجابية كانت أم سلبية، بعبارة أخري: تشمل جميع الأنماط والاتجاهات السياسية، وإن بنسب مختلفة حسب تنوع هذه الاتجاهات والأنماط، وفي كل الأحوال فإنها تعتبر جزءاً من الثقافة المجتمعية، ومنها تستمد مكوناتها ومقوماتها، وتتأثر بها، وتؤثر فيها. من هذا المنطلق - وكما تكشف العديد من الدراسات - يمكن القول: إن الثقافة السياسية السائدة في مصر هي محصلة للتراكمات التاريخية وعمليات التنشئة بمختلف أساليبها وفي القلب منها: - الأسرة بكل تقاليدها وقيمها ومعاييرها وأهميتها لدي الفرد المصري. والجدير بالذكر هنا أنه تتم عمليات التنشئة السياسية داخل الأسرة من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية، مع أن لكل نوع منهما مفاهيمه ومصطلحاته وأدواته، الأمر الذي يؤدي إلي اختلاط هذه المفاهيم والمصطلحات، والتعامل مع السياسة بمنطق التعامل مع الأسرة وداخلها. المؤسسة التعليمية، التي هي بدورها تستمد كل عمليات التنشئة السياسية بها من الثقافة المجتمعية، إلي جانب بعض المعارف والمعلومات التي يتم تحفيظها للمتعلمين، من خلال الدراسات الاجتماعية، والتي تربط العصور والعهود بأسماء الحكام، بما يؤدي إلي ثقافة سياسية جامدة فاقدة الأهمية في عمليات البناء السياسي والاجتماعي. الأحزاب والتشكيلات السياسية، والتي من المفترض فيها أن تقوم بدور مهم في عمليات تشكيل وبناء ثقافة سياسية واضحة المعالم والأبعاد، وذات قدرة علي الارتفاع بمدارك ووعي الأفراد سياسياً. ونصل للإعلام، خاصة هذه الأيام والذي من المفترض فيه الارتفاع بوعي الجماهير، والارتقاء به، والتحلي بالموضوعية في الطرح والتناول، وقد لا نكون بحاجة إلي ما عليه وضعه الآن علي وجه الخصوص، من تلاعب بالعقول، وتزييف وعي الجماهير. وأخيراً وليس آخراً - يأتي دور النخبة المثقفة في عمليات تشكيل الثقافة السياسية في مصر، فمن المفروض في هذه النخبة أن تكون علي تواصل مستمر مع الجماهير، وألا تكون هناك فجوة واسعة بين ثقافتها وثقافة الجماهير، لأن وجود هذه الفجوة يفقد النخبة دورها. وهنا تفرض موضوعية الطرح أن المجتمع المصري قد شهد وجود هذه النوعية من النخب السياسية والمثقفة، وكانوا علي مستوي الدور والرسالة المنوطة بهم، كما يوجد الآن البعض من هذه النخب ما تزال محافظة علي التزاماتها، قيمها وأخلاقياتها، ورسالتها في الارتفاع بمستوي وعي الجماهير. ولكن ما تزال هذه النخبة تشكل قلة قليلة للغاية، بل باتوا يؤثرون الابتعاد عن الصخب الحادث، في ظل غلبة من أشباه المثقفين وتلك الأجسام الطافية من السياسيين، بل نجد تحولاً واضحاً في اتجاهاتهم، فمن أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، ومن مواقع النضال إلي مواقع المصالح الخاصة، وتصفية الحسابات مع خصومهم، والعمل من أجل تدعيم وجودها وبقائها. وغيرها من الأمور التي تكشف عن وضع كارثي لثقافتنا السياسية السائدة، الذي يمكن أن تتأكد كارثيته مما يحدث الآن، وعلي سبيل المثال لا الحصر: 1- ظاهرة «البرادعي» ذلك العالم المصري العالمي، الذي نفاخر به عالماً عالمياً، كان بإمكانه أن يفيد مجتمعه بعد غياب طويل - في مجال تخصصه، ويضعنا في هذا المجال في مقدمة الأمم الناهضة المتقدمة، ولكن - وبثقافة سياسية بعيدة تماماً عن نبض الجماهير، وبشعارات غير واضحة المعالم، بل وتجمع بين كل المتناقضات، وحولها يجتمع أيضاً ذوو الاتجاهات المتناقضة، ومن لهم مصالح - وأيضاً متناقضة. نقول في ظل هذا يتم التعامل مع هذه الظاهرة دون وعي أو ادراك لمستقبل مصر السياسي بكل تاريخها وحضارتها، وحجم ونوعية سكانها، وما لديهم من أزمات ومشكلات، وأيضاً طموحات. 2- ظاهرة الشباب الثائر المتمرد لفقدانهم المثل والنموذج والقدوة، ولما يعانونه من بطالة، وما يرونه من فساد علي كل الجبهات، ومن طبيعة صارخة، وبطالة مدمرة، وفقدان عمليات التنشئة وكيف يكون الحوار والتظاهر، والمطالبة بالحقوق، هؤلاء الشباب الذين يتم توظيف معاناتهم لمصالح غيرهم. 3- ونصل إلي كارثة الكوارث التي شهدتها الساحة المصرية منذ أيام قليلة، وتتمثل في الأصوات النكرة، فاقدة الحس السياسي والجماهيري، نتاج الفساد والإفساد، والقدرة علي تزييف وعي الجماهير، والضحك علي الذقون، من خلال الوعود الكاذبة، واستطاعوا من خلال هذا وغيره الوصول إلي المجالس النيابية التي يوصف أعضاؤها بالمحترمين، ونواب الشعب، والمدافعين عن حقوقه وحريته، ويكونون قدوة ونموذجاً للحوار، وضرب المثل في كيفية العطاء وإنكار الذات، وتوظيف حصانتهم فيما فيه خدمة الشعب، وتحقيق مطالب الجماهير، وعلاج مشكلاتهم ومواجهة ما يعانيه الشعب من أزمات، في كل الميادين والمجالات. نقول: إنه من المفترض أن يقوموا بهذا، ويشكلون النموذج والمثال، ولكن ما حدث ويحدث من بعضهم يكشف عن وضع كارثي، ولن نطيل في بيان ما يحدث ويكفي أن نشير إلي: رفع الأحذية والسباب والشتائم بين الأعضاء. ولنتجاوز عن نواب باتوا يوصفون بصفات توضع في خانة «الجرائم» وارتكاب اشياء مخجلة، من غير المقبول أن يقوم بها الشخص العادي. ولا يدري هؤلاء النواب أنهم أساءوا إلي سمعة مصر التاريخ والحضارة وإلي الأحزاب التي ينتمون إليها. وهنا نتساءل: أليس في كل هذا ما يؤكد أن ما يحدث إنما يكشف عن كارثة الثقافة السائدة؟ وأنه يجب علي المعنيين بالأمر القصاص السياسي من هؤلاء النواب ولنعد للشارع المصري وضعه ومن قبل ومن بعد يعيد لمصر سمعتها التي تليق بها في المحافل الدولية، وأنها - وبكل المعايير - مصر التاريخ والحضارة رغم أنف الجهلاء وأعداء الحرية والديمقراطية.