كان (التغيير) بضاعة مرفوضة في المجتمع السياسي.. بل في المجتمع كله.. ودفع به الحزب الوطني إلي الساحة.. ورفع هو شعاره.. إلي أن جاء الوقت الذي ارتفع فيه الطلب علي (التغيير).. وأصبح علي الحزب أن يدافع عن كونه هو الذي أشار إليه وبادر إليه.. بل وأن يواجه تحديات من المنافسين السياسيين الذين يريدون اختطاف الشعار منه. لا لوم علي الخاطفين. الساحة تخلو من المنطق. يعمها العبث. ومن ثم فلا يمكن أن تطالب فيها بالأخلاق.. ذلك أن المستوي القيمي للتفاعلات في الحراك المصري هبط إلي جرف عميق. أحسن الأسوأ فيه أن يحدث استيلاء علي الشعارات.. والأهم أن الحزب الذي دعا إلي التغيير وواجه مقاومات مختلفة من داخله وخارجه.. هو نفسه تخلي عن التسويق لشعاره عمليا.. علي الرغم من أنه ينفذ يوميا ما يندرج تحت بند التغيير.. ويواجه عنتًا عامًا عند كل محاولة لإحداث تطور في أمر ما في أي مجال. وليس (التغيير) وحده هو البضاعة الوحيدة التي قدمها الحزب.. وناضل من أجلها.. وجاء من يريدون اختطافها منه.. مفهوم المواطنة.. علي سبيل المثال.. الحزب لم يبتدعه.. لكنه لم يكن مطروحًا أصلاً في لغة وتفاعلات السياسة في مصر قبل أن تذهب إلي ذلك أمانة السياسات قبل نحو ست سنوات.. وأصبح المفهوم حيويا.. وأساسيا.. والحزب يلاحق بأنه لا يطبق معايير المواطنة.. أو لا يعمل من أجلها. حسنًا، التغيير كمفهوم واسع لا ينطبق فقط علي (الأشخاص)، ولا يمكن التعامل معه وفق نظرية (الثلاثي المرح الشهيرة)، ولكن التغيير في حد ذاته هو ثقافة.. ونسق.. وآليات.. وأهداف وخطط.. مصر تغيرت بالفعل.. وتتغير.. وتحتاج تطويرًا مستمرًا.. لأنها دولة (حيوية دائمة).. الرئيس الأمريكي أوباما قاد أكبر عملية تغيير في المجتمع من خلال قانون الرعاية الصحية الجديد.. ليس من خلال تغيير اسم المسئول عن الملف.. ولكن من خلال تغيير القانون.. عبر مناقشات واسعة.. وتأييد برلماني... وجدل رهيب.. لقي مقاومة شنيعة.. إلي أن تم. في مصر، اختصار التغيير علي كونه سوف يحدث بتغيير الأشخاص يؤدي إلي تضليل واسع للناس.. وهذا المعني لو كان منتشرًا بين الناس تكون تلك مشكلة الحزب.. لأنه لم يسيطر علي (المفهوم).. ولأنه بدا كما لو أنه ضد (التغيير) في حين أنه هو الذي خلق الطلب علي التغيير. لنترك جانبًا التعديلات الدستورية. مثلا التغيير في طريقة التعامل مع سعر الصرف.. من الذي قاد الطريق إليه.. ووجد عنتًا وعنفًا في الاعتراض من فئات عريضة من تجار العملة. التغيير في مفهوم الضرائب.. من الذي قاد الطريق إليه.. وواجه مقاومة لم تزل قائمة.. امتدت إلي الضرائب العقارية. التغيير في نظرة المجتمع إلي زراعة الأعضاء.. التغيير في النظرة إلي القطاع الخاص.. التغيير في الواقع الإعلامي.. وكثير من الأمثلة. وفي التعديلات الدستورية هناك الكثير.. هناك التغيير في طريقة انتخاب الرئيس الذي كان يتم الاستفتاء عليه.. وفي اختصاصات رئيس الوزراء.. وفي من يكون مفوضًا بصلاحيات الرئيس في حالة الاحتياج إلي ذلك.. وفي نسبة مقاعد المرأة في البرلمان.. وفي مدنية السياسة وأنها لا يجب أن تختلط بالدين.. وكثير غير ذلك. الحزب قاد هذا كله.. وخلق مناخاً هو الذي أدي إلي حيوية البرلمان.. وسخونته.. لا أحد يذكر كيف كان مجلس الشعب قبل عام 2005 .. ولا أحد يطرح عليه كيف كانت اختصاصات مجلس الشوري محدودة.. لا أحد يذكر.. والحزب نفسه لم يذكر أحداً.. إذ يبدو أنه اكتفي بتسجيل التاريخ.. ويعتقد أنه قضي الأمر.. إلي أن أصبح المتفاعلون في الحراك يهاجمونه بالمطالبات بشعار التغيير. الحزب مسئول عن انحراف مفهوم التغيير عن طريقه.. فهو لم يرسخ أنه وسيلة للتطوير.. وليس من أجل الفوضي والتدمير.. وفي مرات مختلفة سمعت مسئولين حزبيين يقولون إنه - أي التغيير - ليس قفزًا إلي المجهول.. ولكن هذا المفهوم لم يتم ترسيخه.. وأصبح في المجتمع فصيل من الشباب يدعو إلي التغيير ولو تجريبًا... وإلي التغيير ولو أدي إلي الانتحار. من أين جاء هذا؟ جاء لأن التفاعلات لم تقابل بتفاعلات.. ولأن الصخب الإعلامي لم يقابل بفعل سياسي يفرض الأجندة.. ولأن هناك اعتقاداً أن الإيقاع يمكن السيطرة عليه بتجاهله.. في حين أن المجتمع أصبح مختلفًا في مزاجه العام.. ويريد كما قلت بالأمس عملية (استرضاء مستمرة).. وخطب ود دائم.. الأغلبية لا تثق فيما هو مطروح عليها من بدائل.. وتؤمن حقا بأن هناك أسماء وقوي لا يمكن إلا أن تقود المجتمع في اتجاه المصائب.. ولكن تلك الأغلبية تريد ممن تثق فيه ألا يركن إلي أنها تريده.. وإنما أن تظل تسعي إليه في كل لحظة.. هذا في حد ذاته نوع من التغيير يريد الناس أن يلمسوه. العقلية الجديدة التي خلقها مناخ تغيير قاده الحزب تدرك قيمة وتأثير قوة الدولة.. ولكن فئات الرأي العام تريد أن تري المنازلة.. أن يتم التعبير عن هذه القوة سياسيا.. وليس فقط من خلال الثقة في وجود تلك القوة.. الجميع يعرف أن هناك ردعاً معادلاً للفوضي لدي الدولة.. ولكن التعبير عنه يجب أن يكون من خلال الحزب.. وأداة أي حزب هي العمل السياسي المستمر وليس أن يخرج نائب طائش لكي يطالب في مجلس الشعب بأن يكون التعامل مع المظاهرات بإطلاق النار.. ويضطر بعدها لأن يعتذر.. أو أن يبتلع ما قال.. وأن يطلب حذفه من المضابط.. ويضطر الحزب لأن يكشف ظهر نائبه وينتقده علنًا.. ثم يأتي هو وينفي ما قال. هذه مثلا واقعة مزعجة جداً تمثل نموذجًا كلاسيكيا لوجود الحزب تحت النار.. نار الهجوم.. كل معارضي الحزب يدركون أن هذا ليس خطة.. وأن ذلك ليس توجه الحكم.. وأنه لا يمكن اللجوء لهذا الأسلوب في التعامل مع حرية التعبير... ولكن التسويق المهول لما قال نائب مجهول ولم يسمع عنه أحد من قبل كان مذهلاً في يوم وليلة. الواقع الجديد يتطلب إيقاعا سريعا.. وتفاعلاً فوريا.. وبكل الوسائل.. تفاعلاً يقدم وجبات مستمرة للرأي العام.. يبادر ولا يكون رد فعل.. يحدد هو الأجندة ولا يترك مقودها للآخرين.. تفاعلاً أساسه سياسي.. وليس مجرد صخب كما يفعل الآخرون في ساحة مليئة بالصخب. وقد نواصل فيما بعد. اقرأ مجموعه مقالات الحزب تحت النار فى الايام الماضيه : السياسه ليست رهبنه (الحلقه الاولى) السياسه وتكبير الدماغ (الحلقه الثانيه) مراعاة الخواطر ..ام المصالح (الحلقه الثالثه) استرضاء الراى العام (الحلقه الرابعه) [email protected] www.abkamal.net